نظام إيران يُعلِّق «المشانق» لإخماد الاحتجاجات واستحالة «الخطوات إلى الوراء»
القدس العربي
Thursday, April 21, 2022
حين قُتلت الشابة مهسا أميني ابنة الـ22 ربيعاً على يد «شرطة الأخلاق» بسبب ارتدائها «الحجاب السيّئ» ما كان القتلُ قراراً مُتّخذاً بعد دراسة متأنية ومعمّقة لأركان النظام في الجمهورية الإسلامية لما يمكن أن تكون عليه ردّة الفعل في الداخل والخارج، كما الحال مع تنفيذ أول حكم إعدام بمتظاهر بعد محاكمة صورية بتهمة إقفال شارع وجرح عنصر أمني. سيكون إعدام محسن شكاري ابن الـ23 ربيعاً تاريخاً فاصلاً في عمر الاحتجاجات الشعبية التي قاربت على نهاية شهرها الثالث.
في حادثة مهسا أميني، أظهرتِ الفيديوهات التي وثَّقتْ واقعة اعتقال أميني في الشارع كيفية تعاطي «شرطة الأخلاق» القمعي مع ما تعتبره مخالفاً لقوانينها الدينية والشرعية والعقائدية، حيث أدى ضربها، وركلها، وسحلها، لزجّها في العربة إلى الوفاة، ما شكَّل شرارة الاحتجاجات التي تصدّرت النساء والشباب وطلبة الجامعات واجهتها قبل أن تتوسَّع شرائحها وأنماطها.
«شرطة الأخلاق» التي أُنشئت في زمن أحمدي نجاد جاءت لضبط التفلّت من القواعد الصارمة الذي ظهرَ مع الإصلاحيين، ولا سيما منذ ولاية محمد خاتمي، إذ أَضحتْ لأريحية ارتداء الحجاب حينها دلالات سياسية، رغم أن هؤلاء الإصلاحيين كانوا متمسكين بنظام ولاية الفقيه وليسوا رافضين له.
بعد الانتخابات الرئاسية عام 2009، والتي تَعتبرُ المعارضة الإصلاحية أنَّ تزويراً شابها لمصلحة فوز نجاد بولاية ثانية على حساب مرشح القوى الإصلاحية مير حسين موسوي، شهدت شوارع طهران تظاهرات حاشدة على مدى شهور، ما عُرف يومها بـ»الثورة الخضراء» أو «الحركة الخضراء» حاملة شعار «أين صوتي؟». شكَّلت تلك الاحتجاجات أزمة داخلية وُصفت بالأكبر منذ الثورة الإيرانية 1979، ولم تنته إلا بعد الكثير من القمع واعتقال المئات من القيادات الشبابية وفرض الإقامة الجبرية على قادة المعارضة، وفي مقدمهم موسوي ورجل الدين مهدي كروبي، ومنعهم من الظهور الإعلامي والتصريح وكمّ أفواه الصحافة.
نجح نظام ولاية الفقيه في إخماد «الحركة الخضراء» بوسائله المتعددة، وسلَبها كل إمكانات الحياة والاستمرار خصوصاً بعدما طوَّرت شعاراتها السياسية نحو تعزيز مبدأ «إيران أولاً»، وباتت تمسُّ مرتكزات النظام ومبادئه، ولا سيما «تصدير الثورة الإسلامية» و«الصلاحية المطلقة لولاية الفقيه»، التي وجدت صداها لدى جيل الشباب قبل الألفية الثانية الذي عبَّر يومها عن توقه للانفتاح والحرية والحياة.
تلك الشعارات تُشكّل أيضاً منطلقات جيل الألفية الثانية، وإن لم يكن في غالبيته قد وُلد في زمن «الحركة الخضراء»، ولا هو يمهرُ نفسه بختم الإصلاحيين، لكن تطورات العصر والعولمة وثورة التكنولوجيا وانفتاح الشعوب والمجتمعات فعلت فعلها في هؤلاء الذين يبتكرون كل يوم أساليبهم في مواجهة النظام وأجهزته. فتظاهرات 2017 التي خرجت على خلفية مطالب اقتصادية بعنوان «لا للغلاء» بعد زيادة أسعار المواد الاستهلاكية، تحوَّلت شعاراتها إلى سياسية بعد مواجهتها بالقوة، فحضرت شعارات «لا غزة ولا لبنان… روحي فداء إيران» مجسّدة مبدأ «إيران أولاً». وأسهمت تظاهرات العام 2019، على خلفية رفع الدعم عن البنزين، في توسيع الهوّة بين الشعب والنظام. يومها حضرت مجدداً شعارات «ما شأننا بفلسطين»، و«لا غزة ولا لبنان… روحي فداء إيران»، و«ما ذنب أمتنا في سوريا»، ولكنها أيضاً اتّسمت بجرأة أكبر في البُعد العقائدي – السياسي برفعها شعارات «لا نريد الجمهورية الإسلامية»، «الموت للديكتاتور»، «الموت للخامنئي»، «يا ديكتاتور اترك البلاد». لا بل إن تلك التظاهرات شهدت أيضاً قيام فتيات بنزع حجابهن، والمطالبة بالنظام الملكي السابق أيام الشاه. ورأى متابعون للشأن الإيراني يومذاك أن ما يجري لا يُعبِّر فقط عن غضب من أداء الحكومة، بل عن توقٍ إلى تغيير جذري في مرتكزات النظام.
اليوم تحوَّل نزع الفتيات لحجابهن سمة احتجاجات 2022 رداً على مقتل أميني، وتصدح شعارات «الموت للديكتاتور»، «الموت للخامنئي» في الليل من على شرفات المنازل، وتخطّها الأنامل على الجدران، وتحملها لافتات المتظاهرين في مدن عدة. يتركز القتل بشكل كبير في محافظتي سيستان – بلوشستان، وكردستان – إيران، إذ تسهل تُهم أبنائها بالنوايا الانفصالية والمؤامرات الخارجية، غير أن القتل الذي زار بيوت نحو 500 عائلة حاصداً أرواح فلذات أكبادهم، والاعتقال بالآلاف، لا ينحصر في المحافظات الحدودية بل يتمدد إلى كثير من المحافظات والمدن الرئيسية بما فيها العاصمة طهران.
الشعارات التي تعكس مكنونات المحتجين تؤشّر إلى الافتراق الكبير عن طبيعة النظام الديني الحالي، والذي لن يألو جهداً ولن يعدم وسيلة لإخماد الاحتجاجات بنسختها الجديدة على غرار ما فعله سابقاً، لا بل إنه سيُمعن أكثر في قمعها، خصوصاً بعدما دخل إضراب الأسواق التجارية رافداً مهماً للمنتفضين. لا يُعطي أداء النظام انطباعاً بأنه عازم على تقديم تنازلات وإجراء إصلاحات. فحتى الإعلان عن حل «شرطة الأخلاق» جاء ملتبساً بالشكل وفارغاً من مضمونه، إذ أُرفق بكلام عن إجراءات عقابية بحق النساء السافرات تحرمهن من حقوق مدنية كفتح حساب في البنوك. ويدل غموض القرار، الذي أُدرج في خانة محاولة احتواء المحتجين، أن السلطة غير راغبة وغير قادرة على إبدال حرف مما جاء في دستور الولي الفقيه، سلطة الله على الأرض.
من هنا يتمُّ النظر إلى إعدام المتظاهر محسن شكاري على أنه الرسالة الجوابية للشارع. وهو التعبير عن الطريق الذي سيسلكه النظام حيال الداخل، فيصبح المحتجون دعاة فتنة وإفساد في الأرض ومصيرهم الإعدام. هو لوَّح بورقة الإعدام مُنفّـذاً بعض الأحكام بقضايا سابقة للاحتجاجات، لكنه لم يلمس تراجعاً، فرفع منسوب المواجهة إلى إنزال حكم إعدام بمتظاهر وتنفيذه على الفور. وأكثر من ذلك، صوَّر الشاب قبل لحظات من إعدامه.
التوقعات بأن الأحكام ستتوالى، وربما التنفيذ أيضاً، عله يُخفت صوت المحتجين ويقمع مطالبهم، عبر سلاح المشانق والإخفاء والترهيب. فكل الوسائل للدفاع عن النظام تجوز حين يتمّ رفعه إلى رتبة القداسة. سيتكئ على رجالات الأمن والعسكر، ولن يستمع إلى أي تمايز من الأصوات السياسية كالرئيس الأسبق محمد خاتمي الذي غازل المحتجين بروعة شعار: «امرأة، حياة، حرية»، ولن يستمع لصوت شقيقته بدري حسيني خامنئي، التي اعتقل النظام قبل أيام ابنتها، ولا أنه سيأبه بكل تهديدات الخارج بالعقوبات.
دائماً، كان يُعبِّر منظرو «محور إيران» عن حاجة النظام إلى ضمان ترتيب بيته الداخلي قبل فتح الأبواب للخارج. ليس الحديث عن انفتاح على الخارج والغرب تحديداً، إنما الاكتفاء بما يحتاجه للمساعدة في إعادة تأهيل البنى التحتية النفطية. أبدى هؤلاء المنظرون ارتياحهم للترتيبات الأخيرة بعد الانتخابات الرئاسية، والتي أدَّت إلى تماهٍ كليّ بين ولاية الفقيه ورئاسة الجمهورية والحرس الثوري وتكامل وتعاضد بين ركائز المنظومة. وكان كل ذلك تمهيداً للمرحلة الآتية بعد إعلان الموافقة على إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني. وهي العملية التي توقفت بعد الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها، قبل أن تطلَّ الاحتجاجات برأسها في الداخل.
ليس متوقعاً أن يخطو النظام خطوات إلى الوراء لامتصاص النقمة المجتمعية. فعندما وجَّه المرشد لعمل أنشودة «سلام فرمانده» لتحية الإمام المهدي المنتظر وظلّه على الأرض وحرّاس ثورته، وإنتاجه بلغات عدة غير الفارسية، حيث يؤديه الأطفال والناشئة السائرون على تعاليم الولي الفقيه، يؤدون السلام للخامنئي ولقاسم سليماني ليس فقط في إيران بل في كثير من الدول حيث وصلت أذرع إيران ومدَّت ثقافتها، حينها تساءل كُثر من المراقبين عن الأسباب الكامنة وراء الرغبة بهذا العمل الذي تغنّى خامنئي في إحدى إطلالاته بما يُظهره الناس صغاراً وكباراً، أطفالاً ونساءً من تفانٍ ومواصلة للمسيرة. يومها سأل: هل هذا يدل على إعراض الناس عن الدين أو العكس؟ اليوم يمكن فهم ما كان يؤرق المرشد والمنظومة الكاملة التي تخوض معركة وجودية. واليوم يمكن فهم الأسباب واستخلاص الإجابات.
على أن ثمة اقتناعاً بأنه حين يتجرّأ الشعب في الأنظمة الديكتاتورية على شتم «القائد» والتجرّؤ عليه، تكون بداية النهاية قد بدأت تُكتب، مهما حاولت تلك الأنظمة الظلامية إطالة عمرها، ومهما استقوت قمعاً وقتلاً وظلماً على أبنائها الذين سيدفعون أثماناً باهظة إذا ما أرادوا أن ينالوا قسطاً من الحرية.
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها