هناك أناس عندما يموتون نبكي حزناً على أنفسنا .. بيار صقر… أستميحك عذراً
ايلي براغيد - موقع القوات اللبنانية
Thursday, April 21, 2022
هناك أناس عندما يموتون نبكي حزناً عليهم
وهناك أناس عندما يموتون نبكي حزناً على أنفسنا
عرفت بيار صقر في النصف الأول من الثمانينات من القرن الماضي. كنا ندرّس سوياً في أحد المعاهد التقنية في حي الجميزة، هو يتخصص بالمحاسبة، وأنا الاقتصاد السياسي. وكنا نلتقي أحياناً ونلقي السلام على بعضنا البعض لدى مغادرة أحدنا الصف ودخول الآخر إليه.
يومها، كنت أجد لدى بيار صفات الأستاذ المعلم بكل ما للكمة من معنى، أراقبه وألمس قدرته على العطاء وتفاعله مع الطلاب وتقربهم منه.
وشاءت الأقدار أن نلتقي بعدها في مدرسة القوات اللبنانية هذه المرة وفي صف يختلف عن باقي الصفوف. تعرفنا إلى بعضنا عن كثب وأصبحنا رفاق نضال وكنا مجموعة تضم في صفوفها بول منيّر ابن زحلة، والصديق الصدوق لبيار، وطوني السلمون ليكتمل شملنا.
لكل منا شخصيته وطباعه، وكان بيار دوماً ابن زحلة المقيم في بيروت قسراً بسبب ظروف الحرب، يحمل زحلة أينما ذهب، يروي بطولات أبناءها بكل فخر واعتزاز، وهو من كان له الباع الطويل في حرب زحلة ضد المحتل السوري.
بقينا على هذا المنوال إلى أن فرقتنا الأقدار هذه المرة العام 1994، إذ غادرت قسراً إلى فرنسا بعد اعتقال القائد الحكيم وعدت بعد خروجه. ولدى وصولي إلى مطار بيروت كان بيار مع بول وطوني في انتظاري وكأن الوقت لم يمر ولا السنين توالت.
لازمني وقتاً طويلاً إلى حين استعدت ما غاب عني خلال وجودي في الخارج، فكانت جلسات وجلسات نروي فيها أخبارنا ونكاتنا وما فاتنا خلال تلك السنوات. وحده بيار بيننا نحن الأربعة كان يتميّز بالجدية والانضباط إذا صح التعبير لدرجة أننا كنا نحاول إغاظته وزكزكته من حين إلى آخر ليخرج عن طوره وعن جديته ويلاقينا في المزاح لكنه أبى أن ينجرّ إلى ملعبنا.
شغفه الحديث عن القوات والرفاق والبطولات والأوضاع السياسية فيما نحن كنا نسعى إلى تمضية السهرة والتعليق على كل شاردة وواردة من باب التسلية.
أطلقنا عليه وعن حق تسمية “بروتوكول” لأنه يأبى الخروج عن الأصول: أصول الكلام، أصول التصرف، أصول الحوار، وبقي هذا البروتوكول يرافقه حتى في كتاب الوداع الذي كتبه. إذ نظمّ كل شيء: النعش، الإعلام، التأبين، اللوحة التذكارية، تاريخ قداس الذكرى، ووصاياه إلى العائلة والأخوة.
هذا هو بيار، ابن القضية، لم يشرد يوماً، ولم يضيّع البوصلة، بقي على الخط المستقيم من بشير إلى سمير، هذه قضيته، هذا ما كتبه، هذا هو.
لا تعنيه المناسبات والاحتفالات، وحده قداس شهداء المقاومة اللبنانية السنوي عزيز على قلبه ووجدانه، يشارك فيه في كل مرة وبكل ما أوتي من قوات.
هوايته السير في الطبيعة، وقيادة السيارات الرباعية الدفع، يتسلق بها الجبال والقمم الشاهقة، سلاحه كاميرا التصوير، يختار معها أجمل الصور والمشاهد وينشرها تباعاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي وصفحته الخاصة، فيشارك الجميع ما توصلت إليه وما اختارته عدسة المحترف.
يعرف الجبال بصخورها ووديانها، تعرفه كل الدروب، سلك البعض منها على الأقدام والبعض الآخر في الجيب ولم يترك درباً يعتب عليه. لطالما كنت أعلقّ وأحسده على ما يقوم به ولم أفهم لماذا يهوى ما يهواه وما الذي يدفعه الى المخاطرة في بعض الأحيان في الأماكن الوعرة؟
بيار صقر، أستميحك عذراً لأنني أسأت الفهم، طالت السنون العجاف وكثرت الأعباء عليك وثقل الحمل، فاخترت الانعتاق باتجاه القمم حيث الهواء أنقى والبياض أنصع والقلوب أدفأ. اخترت الانعتاق هرباً من واقع مرير، أسأت أنا شخصياً فهمه.
أتذكر يوم رافقتك إلى أعالي الجبال، وإذ بأطفال وأولاد الرعاة يهرعون إليك عندما سمعوا زمور الجيب، وانتظروا أن تأتيهم بالحلويات والشوكولا كالعادة، وكانت من المرات القليلة التي أراك فيها فرحاً، مبتسماً، لأنك زرعت البسمة على وجوه الآخرين.
لا أنسى كم مرة تعطل الجيب في أعالي صنين وتنورين وجرود العاقورة وكنت تعاود الرحلة إياها بشغف وعطش.
أرى فيك الابن المحب الصدوق لوالديه، تقف إلى جانبهم مع تقدمهم في السن ومرضهم، وبقي الأستاذ رينيه مثالك الأعلى زرع فيك شهامة الزحليين وطيبتهم.
في السنوات القليلة الماضية، لم نعد نلتقي دورياً كما جرت العادة لأسباب عدة أبرزها وباء كورونا، وشاءت الظروف أن ألتقيك في 6 شباط الماضي مع بول وطوني لتناول البيتزا وشرب البيرة. حسبته لقاء كباقي اللقاءات.
لكن…
بيار صقر، عذراً، لم أتنبه ولم أشعر، كان تركيزي على دمعة العين ونسيت دمعة القلب، خلتك تبتسم على الرغم من أن دموعك تحرق أعماقك. نسيت أنه حتى الميدالية لها وجهان، نسيت أن أنظر إلى الوجه الثاني فعذراً.
أعذرني يا بيار، تلعثمت بالأمس حين اتصل بي بول ليخبرني باكياً ما حصل، انتابني الصمت والسكوت وشعرت عندها أن شيئاً ما فاتني، لم أصدق يوماً أن أسمع أو أشاهد بول منيّر باكياً. أو بيار صقر مودّعاً.
قرأت رسالتك بتمعن، مرات ومرات، عهدي لك أنه خلال ما تبقى من مسيرتي على دروب الحياة، أن التفت شمالاً ويميناً مثلما كنت تفعل في أعالي صنين تفتش عن محتاج لمساعدته في تلك الدروب.
وختاماً: نحن ع هالارض برحلة، وطنّا الحقيقي هوي السما، هونيك أحسن يا بيار.
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها