يطوي القطاعُ المصرفي اللبناني العام المالي الثالث للأزمات المتفجّرة على «زغلٍ» مستدام في ميزانياته ومؤشراته الرئيسية، محتفظاً بمسار الانكماش المتوالي بوَجهيْه الظاهر والمستتر، ليتكرّس التحول الدراماتيكي لوظائف البنوك في الأنشطة كافة، بعدما انحسرت رقعة انتشارها داخل البلاد وخارجها، وانحصرت مهامها بصرف السيولة النقدية المقنَّنة لمصلحة أصحاب الحقوق من أفراد وشركات، وبما يشمل فئاتهم جميعاً من مقيمين وغير مقيمين.
ووفق أحدث الإحصاءات المجمعة لدى البنك المركزي، يُرتقب تسجيل تراجع إضافي تقارب نسبته 8 في المئة بنهاية العام الجاري في الميزانية المجمعة للمصارف، أو ما يماثل رقمياً نحو 13 مليار دولار، لينحدر إجمالي الأصول، وفق التقديرات «الرقمية» المبنيّة على السعر الرسمي البالغ 1515 ليرة لكل دولار، الى نحو 162 مليار دولار، مقابل نحو 175 مليار دولار في بداية السنة.
وقد عكست البياناتُ المحقَّقة حتى نهاية الشهر العاشر منحى هذا الانكماش المتواصل منذ منتصف الشهر عينه قبل ثلاثة أعوام، أي عشية اندلاع الاحتجاجات الشعبية العارمة أو ثورة 17 اكتوبر 2019، لتُترجم بذلك تلقائياً حدة الأزمتين النقدية التي أوصلت سعر صرف الدولار الى نحو 43 األف ليرة حالياً، والمالية التي كشفت عن فجوة خسائر هائلة تتعدى 72 مليار دولار، فضلاً عن التقلص الحاد والمستمر في إجمالي الناتج المحلي الذي هوى تراكمياً من نحو 55 مليار دولار الى أقل من 20 مليار دولار وفق تقديرات المؤسسات المالية الدولية.
في الأرقام، ومع التنويه المسبق بضرورة التدقيق بقِيَمها السوقية الحقيقية وبالشبكة الشائكة من أسعار الصرف المتعددة، سجلت الميزانيّة المجمَّعة للمصارف التجاريّة العاملة تراجعاً بنسبة 5.82 في المئة في لبنان خلال الأشهر العشرة الأولى من العام 2022، لتصل إلى نحو 164.64 مليار دولار، مقابِل نحو 174.82 مليار دولار في نهاية 2021. وبذلك، إنخفضت موجودات (أصول) القطاع المصرفي على صعيدٍ سنويٍّ بنسبة 7.97 في المئة مقارنةً بالمستوى الذي كانت عليه في شهر اكتوبر 2021، والبالغ حينها 178.9 مليار دولار.
أمّا لجهة الموارد الماليّة، ووفق المقاييس ذاتها، فقد تراجعتْ ودائع الزبائن (قطاع خاصّ وقطاع عامّ) بنسبة 3.9 في المئة خلال الأشهر العشرة الأولى من 2022، لتبلغ نحو 129.3 مليار دولار. علماً أنها إنخفضت بنحو 38.76 مليار دولار منذ اكتوبر 2019 وحتّى نهاية 2021 على إثر تراكم عمليات السحوبات، من دون ملاقاتها بأي إيداعات عكسية تخفف من وتيرة التراجع.
وفي التفصيل، جاء التراجُع في الودائع في الأشهر العشرة الأولى نتيجة إنكماش ودائع القطاع الخاصّ المقيم بنسبة 3.73 في المئة ليصل «حسابياً» الى 101 مليار دولار، ترافقاً مع إنخفاض ودائع القطاع الخاصّ غير المقيم بنسبة 4.83 في المئة ليبلغ نحو 23.36 مليار دولار. انما ينبغي الإشارة إلى أن إجمالي الودائع المحرَّرة بالدولار «المحلي» للمقيمين وغير المقيمين معاً بلغ عملياً نحو 96 مليار دولار، لتعكس بذلك دولرة ودائع القطاع الخاصّ بنسبة 77.57 في المئة.
وفي المقابل، إنكمشت تسليفات المصارف اللبنانيّة إلى القطاع الخاصّ (المقيمين وغير المقيمين) بنسبة 20.87 في المئة خلال الأشهر العشرة الأولى من 2022، لتصل إلى نحو 21.93 مليار دولار نزولاً من نحو 27.72 مليار دولار نهاية العام الماضي. ويمكن تعليل جزء من التراجع بقيام بعض العملاء بعمليّات تصفية لقروضهم من خلال إستعمال الرصيد المُوازي لودائعهم تخوّفاً من أي إقتطاع على الودائع أو تَراجُع كبير في سعر الصرف في السوق الرسمي.
وفي نطاقٍ متصل، يشير تقرير للبنك الدولي إلى تَرَكُّز 72 في المئة من أصول القطاع المصرفي في الأوراق المالية السياديّة، موزَّعة بين 64 في المئة لدى مصرف لبنان و8 في المئة في الأوراق الماليّة الحكومية. أما على صعيد المطلوبات، وثّق تراجع ودائع العملاء في البنوك التجاريّة بمقدار 5.7 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من 2022، لتضاف الى انخفاضٍ قدره 9.6 مليار دولار في 2021 وتَراجُعٍ قدره 19.8 مليار دولار العام 2020.
وبالرغم من ذلك، فإن ودائع العملاء لا تزال تمثّل 80 في المئة من التزامات المصارف، مقارنةً مع نسبة 90 في المئة في بداية الأزمة، مع توقّع البنك الدولي أن ترتفع نسبة التركّز مع إضطرار المودعين الصغار والمتوسطين إلى سحب ودائعهم على أسعار صرف الليرة التي حددها مصرف لبنان لمواجهة نسب التضخّم المرتفعة.
وقد سمح الإقراض من قبل مصرف لبنان للبنوك بتسوية إلتزاماتها مع البنوك المراسلة، بحيث انخفضت الودائع والمطلوبات للمؤسسات المالية غير المقيمة من 6.8 مليار دولار و8.8 مليار دولار في ديسمبر 2019، إلى 4.6 مليار دولار و4.9 مليار دولار في ديسمبر 2021 و4 مليارات دولار و4.4 مليار دولار في نهاية شهر اغسطس 2022.
«على الحكومة والبنك الدولي الاستثمار بالحماية الاجتماعية القائمة على الحقوق»
«هيومن رايتش ووتش»: تَزايُد الفقر والجوع في لبنان
قالت «هيومن رايتس ووتش» (Human Rights Watch) إن غالبية الناس في لبنان باتوا عاجزين عن تأمين حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية وسط أزمة اقتصادية متفاقمة، مشيرة إلى أن الأسر ذات الدخل المحدود تتحمل العبء الأكبر.
ودعت المنظمة الحقوقية الحكومة اللبنانية والبنك الدولي إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للاستثمار في نظام حماية اجتماعية قائم على الحقوق ويضمن مستوى معيشياً لائقاً للجميع.
وألقى بحث جديد أجرته هيومن رايتس ووتش الضوء على المستويات المقلقة للفقر وانعدام الأمن الغذائي في لبنان بسبب تراجع النشاط الاقتصادي، وعدم الاستقرار السياسي، وارتفاع تكاليف المعيشة.
وقالت المنظمة إن استجابة السلطات لا تضمن حق كل فرد في مستوى معيشي لائق، بما في ذلك الحق في الغذاء. وأضافت أن نظام الحماية الاجتماعية في لبنان «مجزّأ للغاية، ما يترك غالبية العمال غير الرسميين والمسنين والأطفال دون أي حماية، ويعزز انعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية».
وبحسب المنظمة، فقد دُفع بملايين الأشخاص في لبنان إلى «براثن الفقر واضطروا إلى تقليص كميات طعامهم». وأشارت إلى أنه بعد 3 سنوات من الأزمة الاقتصادية، لم تتخذ الحكومة تدابير كافية، «فنظام الدعم الحالي يصل إلى نسبة صغيرة للغاية من ذوي الدخل المحدود، تاركا الغالبية دون أي حماية».
ونبهت المنظمة إلى أن تغطية برامج المساعدة الاجتماعية الحالية، الممولة جزئياً من البنك الدولي، ضئيلة وتستهدف بشكل ضيق للغاية الأسر التي تعيش في فقر مدقع، ما يترك فئات كبيرة من السكان غير المؤهلين معرضين للجوع، وعاجزين عن الحصول على الأدوية، ويخضعون لأنواع أخرى من الحرمان التي تقوض حقوقهم مثل الحق في الغذاء والصحة.
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها