صحيفة الراي الكويتية تضيء خلفيات و خفايا ظاهرة الحراسات الأهلية في المناطق التي تنتشر في لبنان
صحيفة الراي الكويتية
Thursday, April 21, 2022
. في إحدى القرى الجبلية، يتنقّل فريقٌ من شرطة البلدية ليلاً بين المنازل المنتشرة في وسطها وعلى أطرافها، يجول في الشوارع الضيقة وتلك المترامية على التخوم.
هي وظيفته عادة ليلاً، ونهاراً أيضاً. لكن ظهور عناصر البلدية اليوم أصبح لافتاً، إذ منذ إنفجار الأزمة الإقتصادية القاسية وغير المسبوقة خفّت حركةُ شرطة البلدية في كثير من المناطق ساحلاً وجبلاً، بسبب عدم حصول البلديات على مستحقاتها من الوزارات المعنية لدفع الرواتب. لكن وبسبب الأوضاع الإقتصادية أيضاً، إنتشرت ظاهرة السرقة، فإرتفعت لافتات في بعض البلدات تحذّر من دخول الغرباء إليها بعد السادسة مساء وتوصي بمنع حركة الدراجات النارية الصغيرة التي غالباً ما يستخدمها السارقون في عملياتهم.
ومع هذه التدابير، تحركت مجموعات من السكان في عدد من القرى والبلدات الجبلية، من أجل تأمين الحراسة، خصوصاً للمنازل التي يتركها أهلها في الشتاء الذي غالباً ما يكون عاصفاً، ويعودون إليها نهاية الأسبوع. فيما تبقى هذه القرى ولا سيما في ظل إنقطاع الكهرباء الدائم عرضة لشتى أنواع السرقة.
وفي ظل تراجع حضور الأمن الرسمي لِما أصابه من تعب، وانحسار حواجز قوى الأمن والجيش، بدأ التفلت الأمني على نحو لافت وهو ما تعبّر عنه بيانات القوى العسكرية والأمنية اليومية التي تعجّ بأخبار القبض على عصابات سلب وسرقة ونشل، وتَعَرُّض منازل ومتاجر لعمليات سرقة في مناطق مترامية فوق الجغرافيا اللبنانية.
هذه الظاهرة انطلقت من كونها ظاهرة حماية محلية، أي تنفّذها شرطة البلدية لكن بالتعاون مع أصحاب المنازل عبر تأمين رواتب الحرس البلدي أو مَن يعاونهم، لتصبح تدريجاً معمَّمة في عدد من البلدات الساحلية، وفي أحياء تُعتبر راقية من بيروت وضواحيها، حيث تعمد البلديات إلى الإستعانة بفريق حماية لقاء بدل مالي يدفعه أصحاب المباني والشقق، من أجل ضمان سلامة السكان عبر دوريات أو نقاط مراقبة من دون تفتيش أو حيازة أسلحة.
وتَرفع إحدى البلدات لافتة تذكّر بضرورة دفع الأهالي ما يتوجب عليهم من مستحقات شهرية لعناصر الحماية الأمنية مع لفت النظر إلى إنتشار كاميرات المراقبة، الموصولة إلى شبكة هاتفية داخلية بين أصحاب المنازل ولا سيما في الجبال فيراقبون يومياً محيط منازلهم المهجورة شتاء.
بقيت هذه التدابير طبيعية، رغم أنها لا يفترض أن تكون كذلك، لولا تراجع التدابير الأمنية الرسمية، وإرتفاع معدل السرقات والجرائم، ولم يُسَلَّط الضوء عليها كونها كانت عبارة عن إجراءاتٍ محليةِ «الصنع» ولم تتخذ طابعاً سياسياً أو حزبياً. علماً أن لكل منطقة بلديات تنتمي في غالبيتها إلى أفرقاء سياسيين. وفي القرى والمناطق التي لا توجد لديها بلديات، أُطلقت مبادرات عبر الإستعانة بعناصر عسكرية سابقة، سواء بطريقة خاصة أو عبر شركات حماية، لتأمين الحراسة كمناوباتٍ ولكن بطريقة مستترة. إلى ان إنفجرت ظاهرة التدابير الأمنية في الأشرفية في بيروت، حيث بدأت الأنظار تتّجه إليها، من خلال البُعد الذي أعطي لها والتغطية ذات المآرب السياسية التي تناولتْها.
حين بدأت أخبار الحماية الأمنية في شوارع الأشرفية تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أثارت إعجابَ سكان الحي الذين كانوا يعانون منذ أشهر إرتفاعَ معدل السرقة في المنطقة، فيما نُظر إليها تدريجاً على انها أشبه بـ «أمن ذاتي» تمارسه عناصر محلية بثياب موحدة لتأمين الأمن.
ويقول مصدر أمني لـ «الراي» إن «القوى الأمنية وَضعت منذ اللحظة الأولى هذه المجموعة تحت المراقبة، لكن تبيّن لها سلمية تحرك هذه العناصر وعدم حيازتها لأي سلاح، وكل ما تفعله يتم بالتعاون مع القوى الأمنية، وهي تحت الرقابة في شكل دائم».
يعترف الأمنيون في المؤسسات الرسمية بعجز الدوريات والقوى الأمنية عن ضمان الأمن في شكل كامل، ولذا يغضّون النظرَ عن تَعاوُن هذه المجموعات مع شركاتٍ أمنية للحماية والتنسيق مع قوى الأمن والجيش. وهذا لا يعني أنهم يحبّذون هذه الظواهر التي صارت بِحُكْمِ الأمر الواقع حاجةً مُلِحَة.
انطلق تحرك الشبان في الأشرفية برعاية النائب عن المنطقة نديم الجميل، لكن هؤلاء هم أصلاً مجموعة من الناشطين في العمل الإجتماعي، وجزء منهم ينتمي إلى عائلات عريقة في الأشرفية، كما انهم معروفون بمساعداتهم الإجتماعية وتحرُّكهم لمعاونة الحالات الأكثر فقراً. وهم منذ إنفجار مرفأ بيروت (2020) وضعوا أنفسهم في خدمة المتضررين ومساعدة المحتاجين.
ومع تفلت الوضع الأمني وعمليات السرقة والسلب والنشل وما شابه بدأتْ الإتصالات واللقاءات من أجل تأمين الحضور في المراقبة ونشر كاميرات مراقبة والتنقل كعناصر مراقبة عبر الشوارع والأزقة الضيقة. فالأشرفية مجموعة أحياء وأسواق تجارية، لكنها أيضاً أشبه بـ «قرية كبيرة»... كل العاملين في «الحراسة» هم أبناء الأشرفية، ويعرفون بعضهم البعض.
وتَزايُد عدد السرقات صار هاجساً وفرض إيقاعاً أمنياً بالتنسيق مع القوى الأمنية، كون هؤلاء لا يحملون سلاحاً ولا هم مخوّلون توقيف أي مشتبه به.
أخذت هذه الظاهرة ضجةً إعلاميةً وسياسيةً، كونها إنطلقتْ من مجموعاتٍ على صلة بالجميّل، ولو أن غالبيّتهم من غير المنتمين حزبياً.
كما أن الإضاءة عليها إلى هذه الدرجة أعطاها صبغةً طائفية. فالاشرفية جزء من بيروت وتابعة تنظيمياً لبلديتها، وقد برزت في بعض المراحل مطالبات بتقسيم العاصمة «بلديتين»، كما حال مدن كبرى أوروبية، لكن الأمر إتخذ طابعاً طائفياً لأن مَن نادى به هم من قوى مسيحية في مقابل رفْض زعاماتِ بيروت التقليدية من رئاسة حكومة وقوى سنية.
يمكن أن يكون تسليط الضوء على ظاهرة الأشرفية أعطاها طابع «الأمن الذاتي»، لكن الواقع ان ما يجري، يَحدث في بلدات أخرى ومناطق أخرى. في الجبل مثلاً «أمن خاص» من دون إعلانٍ رسمي ولا كاميرات ولا تغطية إعلامية. فالحزب التقدمي الاشتراكي مثلاً يَعرف منطقته جيداً ويراقبها دائماً لكن من دون أي مظاهر أمنية أو عسكرية، وهي مناطق كما يقال في العامية «لم تسجل فيها ضربة كف واحدة». وغالباً ما يكون إنتشار عناصر الحزب من دون سلاح ظاهر أو حضور علني مكثف، لكن الحالة الحزبية موجود بقوة في المنطقة.
وكذلك الأمر في مناطق نفوذ قوى سياسية كـ «تيار المردة» في زغرتا أو «القوات اللبنانية» في بشري، حيث سكان المنطقة يعرفون بعضهم كما أي «دخيل» على المنطقة.
وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر يشكل أحد المفارقات الثابتة في مناطق نفوذ «الثنائي الشيعي» ومعاقله الأساسية.
وهنا كان مكمن الإعتراض على الضجة التي أثيرت حول الحماية التي تؤمّنها مجموعات مدنية في الأشرفية، فيما لـ «حزب الله» حضوره الأمني الفاعل في الضاحية الجنوبية ومناطق انتشاره ولا يمكن لأيٍّ من خارج المنطقة أن يتجوّل فيها من دون رقيب. لكن ذلك لا يعني أن هذه الظواهر عادية في بلد يفقد مقوّمات أمنه اليومي ويسجّل نسبة مرتفعة من جرائم القتل والسرقة. وهي وإن كانت ما زالت حتى الآن أقلّ نفوراً من «الأمن الذاتي» لكنها على الطريق ان تصبح كذلك، إذا استمر إيقاع الإنهيار الأمني على هذا المنوال.
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها