بالنسبة للسواد الأكبر من اللبنانيين، يرتبط اسم حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة بأمرين متضادين: العصر الذهبي لليرة اللبنانية مع تثبيت سعر صرف الدولار على 1500 ليرة، وانهيار العملة الوطنية الى بئر بلا قاع.
وعلى مدى ربع قرن، تم ربط العملة الوطنية بالدولار الأميركي وتحديد سعره بـ1500 ليرة لبنانية، الأمر الذي أسهم في استقرار الليرة لسنوات بفضل تدفق الأموال من الخارج، وسمح للبنانيين بنمط عيش يتجاوز حجم اقتصادياتهم. كان ذلك قبل اكتوبر 2019، مع انطلاق مؤشرات مرحلة الانحدار الاقتصادي والمالي نتيجةً للسياسات الاقتصادية القائمة على المحاصصة والفساد والاهمال للقطاعات الإنتاجية، وغياب استراتيجيات التخطيط والرقابة والمحاسبة وضعف الإدارة على مدى ثلاثين عاماً.
في غضون ثلاث سنوات تقريباً، تبددت كل الامتيازات التي انتجها مهندس السياسة المالية اللبنانية. فقد فقدت العملة اللبنانية أكثر من 95 في المئة من قيمتها مقابل الدولار، وأغلقت مئات الشركات أبوابها، واختفت آلاف الوظائف، بينما تستمر أسعار السلع الأساسية في الارتفاع.
اليوم، لم تعد أكبر ورقة نقدية في العملة اللبنانية، أي المئة الف تساوي دولارا واحدا. هذا بينما تواصل الليرة اللبنانية انحدارها بلا ضوابط، في ظل عجز سياسي وتغول المضاربات المالية للصرافين الذين يهيمنون على السوق والمرتبط بعضهم بأحزاب لبنانية.
جوائز وأوسمة
سال حبر كثير، محلي وغربي، في اغداق المزايا على حاكم مصرف لبنان المركزي (72 عامًا)، الذي يكمل هذا الصيف 30 عاماً في منصبه. مع العلم بانه كان من المفترض أن يبقى فيه لست سنوات، لكن الحكومات المتعاقبة ارتأت التجديد له لأربع ولايات آخرها في العام 2017.
وتزدحم السيرة الذاتية لسلامة بأوسمة وجوائز ودروع تكريمية من رؤساء دول ومصرفيين عالميين ومن وكالات التصنيف. من بينها أفضل حاكم مركزي في العالم العربي والشرق الأوسط لمرات متتالية، وأحد أفضل حكام مصارف مركزية في العالم، وحائز وسام جوقة الشرف الفرنسية من رتبة فارس.. وذلك على الرغم من نقاط الضعف المكشوفة والاختلال الفاضح الذي عانى منه الاقتصاد اللبناني.
فالكل كان يدرك ان الوصفة المعجزة لحاكم مصرف لبنان، الذي تمرّس في شركة الوساطة «ميريل لينش»، تمثلت في تعويض العجز الهيكلي في ميزان المدفوعات من خلال اجتذاب الرساميل الى لبنان بعد مكافأتها بسخاء، بواسطة قطاع مصرفي متواطئ انتفخ حجمه إلى أكثر من أربعة أضعاف حجم الاقتصاد. وتحول المصرف المركزي بحسب منتقدي حاكمه، الصندوق الأسود لنظام سياسي فاسد تسبب بنكبة لبنان، بل انه أصبح «دولة معتمة داخل الدولة» ممنوع المساس بها.
أفول العصر الذهبي
أفل عصر سلامة الذهبي مع انهيار الليرة، ويتساويان راهناً في المصير المجهول. يتحدث البعض عن امكانية توقيفه لكن هذا الاحتمال يعني سقوط منظومة بكاملها. في المقابل يخشى مراقبون ان يكون القضاء اللبناني، وعبر الادعاء على سلامة، يريد حمايته وتأمين خروجه من حاكمية مصرف لبنان بأقل الاضرار الممكنة.
واليوم مثل سلامة للمرة الأولى، أمام مسؤولين قضائيين فرنسيين وألمان، في اطار تحقيقات تتمحور على ثروته وشبهات غسل أموال، وذلك بعد تأجيل جلسة كانت مقررة أمس الأربعاء لأسباب إجرائية بسبب اعتراض محامي سلامة على وجود قضاة اوروبيين «ما ينتهك السيادة اللبنانية».
استجواب الـ100سؤال
اليوم حضر حاكم المركزي الى قصر العدل في بيروت، وصعد إلى الطبقة الخامسة حيث قاعة مجلس شورى الدولة، التي جهزت خصيصاً بالصوت والتقنيات الالكترونية اللازمة لبث الترجمة الفورية لأجوبة سلامة على 100 سؤال معدة من القضاة الأوروبيين والتي تولى قاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبو سمرا طرحها.
وانتهت جلسة الاستماع الى سلامة أمام الوفد القضائي الاوروبي أمس، حيث جرى استجوابه بصفته شاهداً لا متّهماً، على أن تستكمل اليوم ليجيب عن 100 سؤال أخرى. وأفادت تقارير اعلامية بأنّ سلامة أجاب عن الاسئلة المطروحة وقد بدا متماسكا ومرتاحا خلال تقديم كل الشروحات حول أسئلة القضاء الأجنبي، وأجاب عن 100 سؤال.
وتركز التحقيقات الأوروبية على العلاقة بين مصرف لبنان وشركة «فوري أسوشييتس»، المسجلة في الجزر العذراء ولها مكتب في بيروت، والمستفيد الاقتصادي منها رجا سلامة شقيق حاكم مصرف لبنان، ويُعتقد أن الشركة لعبت دور الوسيط لشراء سندات خزينة و«يوروبوندز» من المصرف المركزي عبر تلقي عمولة اكتتاب، حولت إلى حسابات رجا سلامة في الخارج.
وقبل عام، أعلنت وحدة التعاون القضائي الأوروبية «يوروجاست» أن فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ جمدت 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية إثر تحقيق استهدف سلامة وأربعة من المقربين منه، بينهم شقيقه، بتهم غسل أموال و«اختلاس أموال عامة في لبنان بقيمة أكثر من 330 مليون دولار وخمسة ملايين يورو على التوالي، بين 2002 و202».
اتخاذ قرار المغادرة
في كل اطلالاته كان سلامة ينفي بشدة ارتكاب أي مخالفات ويزعم ان الاتهامات الموجهة اليه هي محاولة لجعله كبش فداء وتحميله المسؤولية عن الانهيار المالي في لبنان.
في مقابلة معه في فبراير الماضي، قال سلامة رداً على مسألة التجديد له في حاكميّة مصرف لبنان، ان احداً لم يتحدث معه بشأن التجديد له في مصرف لبنان، وهو اتخذ قراره بمغادرة المنصب بعد انتهاء ولايته في مايو المقبل، وقال «مع خروجي من البنك المركزي أكون قد طويتُ صفحةً من حياتي».
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها