العالم
لجوء، هجرة، أو غزو؟
حسن منيمنة - الحرة
Thursday, April 21, 2022
الرجل (ولنسميه "أحمد") لا يتجاوز الأربعين عمراً، متزوج وله أولاد عدّة. كبير أبنائه كان قد توجه إلى أوكرانيا للدراسة، بعد أعوام من نزوح الأسرة من الريف السوري إلى العاصمة اللبنانية بحثاً عن العمل، وذلك قبل الانتفاضة التي استحالت حرباً بين النظام والفصائل في بلادهم. الأسرة ازدادت أعداداً خلال الإقامة في لبنان، وتوطد بقاؤها، بمساعدة منظمات الإغاثة الدولية إثر تدهور الأحوال في سوريا.

تواجد السوريين للعمل في لبنان سابق لهذه الأحداث، بل سابق للاحتلال السوري، والذي عاشته معظم المناطق اللبنانية بين العامين ١٩٧٦ و٢٠٠٥. مئات الآلاف من السوريين وربما أكثر حتى في خضمّ الحروب في لبنان، تولّوا في لبنان الأشغال والوظائف التي ترفّع معظم اللبنانيين عن القيام بها، حتى في الأيام الصعبة.

عمّال بناء، وجامعو نفايات (هذا قطاع فقدوه لصالح عمال مستقدمين من دول أخرى بعد نهاية الحرب)، وما شابه، لمن ليس "مرتّباً" منهم ("الترتيب" مفهوم لبناني حول الظهور والكلام بشكل لائق ومقبول اجتماعياً)، وموظفو محال تجارية ونواطير بنايات لـ "المرتّبين". هذا هو الجانب المرئي.

واقع الأمر أن الحضور السوري الأكثر تأثيراً في لبنان ربما يكون تلك الأسر العديدة، ابتداءً من الطبقة الوسطى ووصولاً إلى أثرى الأثرياء، والتي انسابت على مدى العقود إلى الاندماج بالمجتمعات اللبنانية، بناءً على عوامل التماهي والمصاهرة، مع تسريع وتجنيس عند توفّر الأرصدة.

على أن الحرب في سوريا، والتي اشتعلت عام ٢٠١١، دفعت بهذا الحضور باتجاهات جديدة، كماً ونوعاً. لا شك بأن العامل السياسي، أي هروب مواطنين سوريين معارضين من بطش النظام وفي مرحلة لاحقة الفصائل، كان دافعاً رئيسياً في حشد لجوء سوري في لبنان وصل عند حدّه الأقصى إلى ما يقارب نصف عدد المواطنين اللبنانيين.

الأرقام بعد أعوام قليلة من اندلاع الحرب في سوريا كانت قرابة المليونين من السوريين في لبنان في أوساط أربعة ملايين من اللبنانيين، وهي نسبة غير مسبوقة عالمياً. ولا شك كذلك بأن جعل إيران من "حزب الله" اللبناني رأس الحربة في تشكيلة القوى التي أوفدتها إلى سوريا (لواء أبو الفضل العباس، زينبيون، فاطميون، وغيرهم من التشكيلات التابعة للحرس الثوري الإيراني) قد تسبب بتهجير أهالي منطقة القلمون السورية وغيرهم إلى الداخل اللبناني. غير أن الدافع الثابت للحركة السكانية السورية باتجاه لبنان هو الفرصة الاقتصادية التي يقدمها هذا البلد الصغير، نتيجة محاسنه وعيوبه على حد سواء.

"أحمد" جاء إلى لبنان ساعياً لمستقبل أفضل لأولاده. اجتهد بالعمل حيثما توفّر، حقّق ضمن الدائرة المتواضعة المتاحة له، استفاد ممّا تمكن من الاستحصال عليه من المساعدات، سجّل أطفاله في مدارس خاصة مستحدثة لمراعاة أوضاعه القانونية والمالية، أي قادرة على الاستدارة حول قيود الإقامة الدائمة لقاء بدل مالي، ولم ينسَ أسرته في الريف السوري، بل ثابر على تمويلها وإعانتها مما حصل عليه، مستفيداً، كما جميع المقيمين على الأراضي اللبنانية من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين وعراقيين ومصريين وسودانيين وفليبينيين وبنغلاديشيين وسريلانكيين وإثيوبيين وغيرهم، من الدعم غير المنظور العائد إلى تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية إزاء الدولار.

قنوات التهريب الإجرامي للسلع المدعومة، الغذائية منها والصيدلية والوقود، كانت (ولا تزال) عديدة، وهي قد استنزفت من الثروة اللبنانية المتواضعة الكثير، وراكمت الديون على الأجيال اللبنانية القادمة. على أن قناة الاستنزاف الأولى كانت شرعية. كل مادة مستوردة رأى المقيم في لبنان أنه قادر على استهلاكها كانت جزءاً من هذه القناة. وكل راتب تلقاه مقيم وافد في لبنان وأرسله إلى الخارج، بصيغة وقدر يضاهيان ما يجري في دول الخليج، هو كذلك جزء من هذه القناة. وإذا كان لدول الخليج موارد تسمح لها بمقايضة خروج رواتب المقيمين منها بما تجنيه من أعمالهم. فالأمر في لبنان ليس مقايضة، بل استنزاف.

"أحمد" استنفد ما كان بوسعه أن يستنزفه، من حيث لا يدري، من لبنان. مع السعر المتقلب لصرف العملة اللبنانية، وانهيارها إلى أقل من جزء على عشرين من قيمتها، لم يعد "أحمد" قادراً على تحصيل ما سبق له أن جناه، حتى مع الدعم المتواصل للجمعيات الدولية. ثم أن الأوضاع المعيشية في لبنان قد انحدرت إلى ما يوازي أو حتى يقلّ عمّا تركه في الريف السوري. آن الأوان لـ "أحمد" للبحث عن مكان آخر يضمن فيه مستقبل أولاده.

ابنه في أوكرانيا تمكّن من الالتحاق بأقارب لهم في بريطانيا، ومن جرّاء مكالمات عدة بين "أحمد" وهؤلاء، قرّر الالتحاق وعائلته بدوره بهم. بريطانيا هي الجنة الموعودة الجديدة. طريق الوصول إليها على قدر من الصعوبة، ولكن المكافأة عند بلوغ الهدف تستحق المشقّة.

تحدّث "أحمد" عن المراحل المرتقبة، كما أفاده أقرباؤه، والعديد من معارفه الذين سلكوا هذا السبيل.

"العملية بكاملها منظّمة ومحسوبة. نحن ومجموعة من العائلات. نسافر جوّاً إلى دولة قريبة، تأخذنا الحافلات عبر الحدود إلى دولة أخرى. هاتان خطوتان نظاميتان بالكامل. نحتاج بعدها إلى قطع خطوط التماس في حرب داخلية، عل أن الأمر قد جرت معالجته مسبقاً مقابل مبلغ مالي. الخطوة التالية هي الأصعب، إذ تنضوي على قدر من الخطورة، على أنها بدورها لم تعد، كما كانت في السابق، مجازفة رهيبة، وهي اجتياز البحر وصولاً إلى الدولة الأوروبية المقابلة".

"الخطر هنا هو في أن القوارب غالباً ما تحمّل بما يزيد عن طاقتها بأضعاف، فيغرق بعضها. أما مقابل المبلغ الذي دفعناه نحن، فلن تزيد حمولة القارب عن القدر المقبول. ثم أن هذا العبور الذي سوف نقدم عليه سيكون شرعياً".

- كيف يكون شرعياً وأنتم تدخلون البلاد خارج الإطار النظامي، بعملية تهريب للبشر؟

"ليس الأمر كذلك، فجميعنا على المركب من طالبي اللجوء، واللجوء حق تضمنه الدساتير والقوانين الأوروبية. ولن يتواجد على المركب أحد من المهربين. بل سوف يجري تدريب أحدنا على قيادة المركب، للساعات القليلة التي تستغرقها الرحلة، وسوف يُفاد بالتوجيهات هاتفياً، عبر تقنية نظام الموقعة الكوكبي، لتصحيح المسار".

- طلب اللجوء هو للهارب من الاضطهاد. هذا ليس حالكم.

"نحن جميعاً من بلاد يكثر فيها الاضطهاد. سوف نحتفظ ببطاقات الهوية، من أجل تسهيل الحصول على أوراق العمل والإعانة في الدول الأوروبية، على أننا سوف نرمي جميعاً جوازات السفر في البحر فور رؤية مركب خفر السواحل من الدولة الأوروبية، فلا يكون دليلا على أننا لم نكن من المقيمين في بلادنا. المناط بخفر السواحل هو مرافقة مركبنا إلى برّ الأمان، حيث يستقبلنا المسؤولون عن الهجرة ومنظمات الإغاثة، فنحصل من هؤلاء على أوراق ثبوتية تمكننا من متابعة رحلتنا في أوروبا، ومن أولئك على الألبسة والأطعمة لمتابعة الرحلة. أما المركب، فليصادروه، فهو لرحلة واحدة".

- النظام في هذه الدول يفترض بأن طالب اللجوء صادق وبريء، ويفرض معاملة الجميع بما يتوافق مع الكرامة الإنسانية على أي حال. لذلك، فأنتم لن تعتقلوا، بل يُخلى سبيلكم بانتظار جلسة الاستماع إلى أحوالكم للبت بطلب اللجوء. ولكنكم لستم صادقين هنا، فكيف تواجهون القاضي في جلسة الاجتماع؟

"لن ننتظر الجلسة، بل سوف نتابع رحلتنا برّاً إلى مقابل الساحل البريطاني، حيث تنتظرنا ضيافة أخرى، ومركب آخر لتكرار العبور. ومع الوصول إلى بريطانيا، يتكرر الاستقبال، بأوراق ثبوتية جديدة وإعانات جديدة، قبل أن ننضم إلى أقاربنا وأصدقائنا، سوف يجري العمل للحصول على الإقامة الدائمة والجنسية هنالك. ومن سبقنا قد حصل عليها بغضون أعوام قليلة".

- بالإضافة إلى خطر الغرق، ألا تخشى على أسرتك من أن تكون هذه الترتيبات كاذبة، فأنت وسائر من يهاجر معك قد دفعتم مسبقاً أثمان هذا العبور وذاك، وهذه الضيافة وتلك. ولكن ما الذي يضمن لك بأن المهربين صادقون بوعودهم؟

"التجربة! فقد سبقنا العديدون، وعبروا البحر المتوسط ووصلوا إلى أوروبا. ثم أن أوروبا بحاجة إلينا، فهي قارة عجوز وسكانها يشيخون، وهم بحاجة إلى نشاطنا وقدراتنا، لذلك هم يسمحون لنا بالدخول ويغضّون النظر عن أن هذا الدخول ليس عبر المعابر المعتادة".

- لو كان هذا التشخيص صحيحاً، ألم يكن من الأفضل للدول الأوروبية أن تفتح أبواب الهجرة ليأتي إليها من يناسب حاجاتها، بدلاً من أن يكون دخولها دون ضوابط؟

"ليس هذا شأني. أنا أبحث عن مستقبل أولادي. ولا أرى ما يمنعني من الهجرة بهذا الشكل. بالتأكيد ليس من الأوروبيين الذين يحسنون استقبالنا. بل انظر إلى هذا المقطع المرئي والذي يظهر سعادة المهاجرين عند رؤية مركب خفر السواحل الأوروبي".

يشغّل "أحمد" على هاتفه الجوّال مقطعاً مرئياً أرسله له أحد أصدقائه من الذين أتمّوا هذا العبور، يبدو معه في الأفق مركباً لخفر السواحل، فيما يحتشد على المركب المطاطي الصغير عدد يقارب الأربعين ربما من الشباب والرجال، وما أن يشاهدوا مركب خفر السواحل حتى تتعالى أصواتهم بالهتافات الدينية، من التكبيرات إلى الهلهلة والشهادتين.

زوجة "أحمد" وابنته الشابة محجبتان. على أنه هو ليس شديد التديّن. قد يشرب الكحول بين الحين والآخر. ويؤكّد، تطوّعاً، بأنه لا يخشى على أسرته من أن تتشرب أخلاقيات الغرب وقيمه، إذ أنه سوف يقيم في أحياء أو بلدات غالب أهلها من أهل بلاده أو من المسلمين عموماً، وعلى أي حال فإن من سبقه قد تمكّن من المحافظة على دينه وتقاليده.

من حقّ "أحمد" أن يسعى إلى خير أولاده. بلاده لم تنصفه ولم تتعامل معه على أساس الحقوق والقيم. فقد يكون من الإفراط والإجحاف مطالبته بما لم يعطَ.

ولكن، بعيداً عن "أحمد" الفرد، وصولاً إلى الكثرة التي يشكّل "أحمد" فيها جزءاً صغيراً من كل كبير. وتحديداً من وجهة نظر المجتمع المتلقي، الأوروبي، الذي أراد الافتراض بأن قيمه العالمية واحترامه لحقوق الإنسان هي أساس حاضره (ومع إهمال هنا لزعم التصحيح التاريخي المشخصن للمجتمعات والذي يجعل من حالة اليوم قصاصاً للاستعمار)، هل الذي يجري هو ممارسة للحق باللجوء، هل هو هجرة ذات فائدة متبادلة وجدت لنفسها منفذاً عجزت عنه التعقيدات السياسية، أم هل هي حالة غزو، مادي وحضاري وديني، بأشكال جديدة؟

الجواب قائم على الاعتبارات الفكرية لمن يجيب عليه. من الصعب تطويع المعطيات لاعتبار الأمر لجوءاً، إلا بالمعنى الوجودي الغرضي، غير الصادق، المدلّس. المعطيات تسمح بأن تجيّر لأن يكون الجواب "هجرة" من نوع جديد إذا أحسن الوافدون والدول المضيفة، قسراً، على اعتماد منطق الفائدة المشتركة، والولاء للمكان الجديد.

ما كان ولاء "أحمد" للبنان؟ كون الحالة الإنسانية على ما هي عليه ليس واعداً بهذا الشأن. والمشكلة قد لا تكون بأن بعض الأوروبيين المتوجسين من هذا الوفود غير المنضبط، المستهلك للموارد والمبدّل للوقائع، يطلقون عليه تسمية "الغزو"، بقدر ما هي أن قلة غير قليلة، على الأقل، من هؤلاء الوافدين، ترى هجرتهم على أنها هبة إلهية، رغم أنف المجتمعات المستقبِلة لها، وترى في سلوك هذه المجتمعات، من احترام الكرامة إلى الإعانات وتنظيم الإقامة، منحة وغنيمة، فتحا ونصرا، لا تقتضي الشكر إلا لرب المسلمين، قاهر الكفار والمشركين.

اللاجئون والمهاجرون ليسوا أصل البلاء لا في لبنان ولا في بريطانيا ولا فيما بينهما، وقد لا يشكلون المشكلة الوجودية التي يخشاها البعض. ربما أن حالة "أحمد" هي عارض وحسب للأزمة المتشعبة العميقة التي تنفي عن مجتمعات الشرق العدالة الاجتماعية وتحرمها من استقرارها وتصدّر أوجه من أزماتها. قد يكون الأمر مجرد تسرّب يمكن إهماله. ولكن قد يكون أيضاً أن هذا التسرّب قد يؤدي، رويداً ثم بسرعة متصاعدة، إلى الطوفان. والخراب، هنا وهنالك.

Copyright © 2022 -  sadalarz  All Rights Reserved.
CSS smooth scrolling effect when clicking on the button Top