مخاطر مسرطنة.. الغيمة السوداء تعيد الكابوس إلى لبنان
حسين طليس - الحرة
Thursday, April 21, 2022
"مواد كيميائية تتساقط علينا من السماء كأنها فوشار أسود، تترك على السيارات والشرفات بقع سوداء كالطلاء وتلتصق بشدة، وتتسبب باهتراء الملابس وتترك فيها ثقوباً بعد أن تغير لونها، وكأنها تحرقها حرق، ثم يريدوننا أن نقتنع بأن هذه المواد غير مضرة بالصحة؟ أي عقل يقبل ذلك؟"
يسأل رئيس بلدية ذوق مصبح الياس بعينو، بشأن ما حدث في السادس من سبتمبر الجاري، حيث كانت بلدته الكائنة عند مدخل مدينة جونية اللبنانية، على موعد مع غيمة كيميائية سوداء شديدة الكثافة، غطت سماء المنطقة ومحيطها، وأثارت قلق السكان والخبراء البيئيين، مصدرها محطة توليد الكهرباء القديمة في المنطقة، التي كان يفترض ان يتوقف العمل بها بعد افتتاح محطة الكهرباء الجديدة عام 2017.
المشهد المستفز، الذي جاء قبل يوم واحد من اليوم العالمي لنقاوة الهواء، الذي حددته الأمم المتحدة في السابع من سبتمبر، لاقى انتشاراً واسعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأثار حفيظة الرأي العام اللبناني، ولاسيما أهالي منطقة الذوق ومحيطها، الذين عادوا إلى مواجهة واحد من أسوأ كوابيس حياتهم المزمنة، والتي كانوا ما لبثوا ان اطمأنوا لزوالها، حتى عادت إليهم كأثر جديد لانعكاسات الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد.
تصريحات صادمة
وفيما استدعت الواقعة استنفاراً بيئياً عاماً لمعظم الخبراء والمختصين، بمن فيهم وزارة البيئة اللبنانية، والمدعي العام البيئي في منطقة كسروان، بسبب المخاطر الصحية والبيئية الناجمة عن هذا الدخان، جاءت تطمينات صادرة عن وزير الطاقة اللبناني وليد فياض، من خارج السياق العام، تزعم أن الدخان الأسود "قد يكون مزعجاً، لكنه غير مؤذ صحياً"، مما أثار صدمة لدى الخبراء وفي الأوساط العلمية، وسلط الضوء على حجم الاستخفاف بالرأي العام، واستسهال خداعه عبر تقديم معلومات مغلوطة، وتطمينات غير مبنية على أي حقائق علمية، تتعلق بصحة المواطن وسلامته وبيئته، حسب ناشطين.
ولشدة التناقض ما بين تصريحات وزير الطاقة، وآراء الناشطين البيئيين، ولكون الحكومة تتجه للإبقاء على تشغيل المعمل، تابع موقع "الحرة" القضية، متوجها إلى عدد من الخبراء البيئيين والمختصين الأكاديميين، لبحث مدى خطورة التلوث الذي يتسبب به هذا النوع من الدخان، وما إذا كان يسبب ضرراً على صحة الإنسان أم لا؟ كما يقول وزير الطاقة اللبناني، وينقل عنه حساب رئاسة مجلس الوزراء على تويتر.
النائبة في البرلمان اللبناني نجاة صليبا، وهي أستاذة متخصصة في كيمياء الغلاف الجوي، قامت بزيارة عاجلة إلى معمل الذوق الحراري، على خلفية تصاعد الدخان الأسود، للبحث في أسبابه، حيث كان الجواب الذي تلقته أن وزارة الطاقة ورئيس مجلس الوزراء اتخذوا قراراً بتشغيل المعمل، بالرغم من التحذيرات التقنية، كاشفة أن الدخان الذي تصاعد هول قاتل.
وفي تعليقها لموقع "الحرة" على تصريحات وزير الطاقة، تقول صلبيا إن "هذا الكلام غير صحيح إطلاقاً، ووفق ما عاينته شخصياً واستمعت إليه حين قمت بجولة على المعمل، أن المهندسين كانوا قد أبلغوا المعنيين بعدم القدرة على تشغيل المعمل لكونه سيخرج هذا الدخان الأسود الذي رأيناه جميعاً، لكنهم أجبروهم على التشغيل، وتحديداً رئيس الحكومة ووزير الطاقة، وذلك من أجل توفير ساعة تغذية كهربائية كانت مطلوبة للمطار والمرافق الحيوية."
صليبا تشدد على أنه "لا يحق لوزير الطاقة أن يقول هذا الكلام، الخاطئ علمياً وتقنياً، هذا الدخان الأسود مؤذٍ جداً، وليس هناك دخان غير مؤذي، لا يمكنهم أن يتفلسفوا علينا، كما فعلوا حين انهارت الاهراءات في المرفأ، وقالوا أن الدخان والغبار غير مؤذي، لكنهم حتى الآن لا يجرؤون على الاقتراب وتنظيف المكان خوفاً من انتشار الفطريات، فكيف يقولون لا مخاطر من الغبار ويمتنعون عن العمل خوفا من الفطريات"؟
وتسأل النائبة اللبنانية: غيمة سوداء بهذا السماكة، فيها كبريت ويترسب فوق بيوت الناس، كيف يجرؤون على القول أنها غير مؤذية؟ ليس معقولا ألا تكون مؤذية، صحيح أن هذه الغيمة قد لا يطول وقتها، ولكن هذا لا يعني انها لا تحتوي على مواد كيميائية سامة ومسرطنة، وإذا ما أصبحت وتيرة التشغيل يومية فهذا يعني أن الناس تستشق يومياً هذه المواد المسرطنة مع ما يعنيه ذلك من أخطار على صحتهم واجهزتهم التنفسية.
ضغط وابتزاز
وكانت بلدية ذوق مصبح وسكانها سجلوا اعتراضاً واسعاً على ما جرى، ورفضاً مطلقاً لاستمرار عمل محطة الكهرباء القديمة، مع ما تصدره من تلوث كارثي غير مقبول.
وفي حديثه لموقع "الحرة"، يروي رئيس بلدية الذوق، كيف تساقط على المنطقة بعد انبعاث الدخان الأسود، رماد أسود "كبيرة كحبات الفوشار، وأصغرها بحجم حبة العدس، إن سقطت على الملابس تحرقها وتؤدي إلى اهتراء القماش، وإن سقطت على السيارات تلتصق كالطلاء، فلا يقنعني أحد أن هذا الدخان غير مؤذ للصحة".
اعتراضات البلدية يبدو أنها أثارت حفيظة وزير الطاقة، فبحسب ما تكشف صليبا "وضعوا رئيس البلدية أمام مسؤولية التسبب بانقطاع الكهرباء عن المطار وكامل البلاد، الأمر الذي كان أشبه بأساليب التهديد والابتزاز."
من جهته يؤكد رئيس البلدية الواقعة، دون أن يسميها "تهديداً"، ويتابع "نعم تعرضنا لضغوط من هذا النوع للقبول بالأمر الواقع، تلقينا لوماً على الاعتراض، ووضعنا أمام مسؤولية الحرص على المصلحة الوطنية وما إلى هنالك، وطلب منا وزير الطاقة تحمل التلوث الناجم عن المعمل في هذه المرحلة الدقيقة، بسبب الحاجة الماسة للكهرباء في سجن رومية والمطار والمرفأ ومحطات المياه وتكرير الصرف الصحي."
ويضيف بعينو أن البلدة تسجل عدداً كبيراً من الإصابات بالسرطان الرئوي والجلدي والعينين والأمراض التنفسية، "وهناك قناعة عامة لدى الناس أن كل ذلك سببه المعمل المذكور"، متسائلاً "لماذا في مناطق أخرى لا تسجل هذه النسب من السرطانات؟ فليفسروا ذلك."
وتعتبر منطقة ذوق مصبح من بين أكثر المناطق تلوّثاً في لبنان، وفق تقرير صادر عن جمعية "غريب غلوب" عام 2019، لأسباب عدة، أبرزها المعمل الحراري لتوليد الكهرباء، حيث تسجل ارتفاعات ملحوظة في أعداد المصابين بالأمراض السرطانية إلى جانب شكا، بر الياس، القرعون، بيروت، الجية، طرابلس، الشويفات، برج حمود وانطلياس، ومعظمها مناطق ذات كثافة سكانية مرتفعة، تعاني بسبب مصادر تلوث عالية الخطورة.
وحسب بعينو "وضعت المنطقة أمام خيار إما إطفاء (أنوار) البلاد أو تحمل التلوث، وحتى في هذا الخيار كنا متعاونين وطلبنا من معالي الوزير أن يقدم للمنطقة تغذية أعلى بالكهرباء تسمح للمواطنين خلال ساعات التشغيل للمعمل أن يكونوا في منازلهم ويحصلون على كهرباء تمكنهم من تشغيل التكييف والتهوية، حينها يمكن أن نقول للناس التزموا منازلكم في هذه الأوقات وسيكون هناك كهرباء متوفرة فمن غير المقبول تشغيل المرافق الحيوية على حساب صحة الناس، ودون حتى مساعدتهم على تحمل الوضع الاستثنائي."
ويشرح رئيس بلدية الذوق أن المعمل سينتج نحو ١٢٠ ميغا وات، "فليعطونا ١٠ ميغاوات منهم لأهالي المنطقة، سنتمكن حينها من إطفاء مولدات الكهرباء الخاصة بين المنازل وبالتالي نوفر تلوثاً آخراً، ولكن أن يشتغل المعمل بلا كهرباء وتبقى المولدات شغالة يصبح التلوث مضاعفا علينا."
وتلقى بعينو وعداً من وزير الطاقة بأنه سينقل تمنياته لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، "وحتى الآن لم يطرأ أي جديد".
مزيد من السرطنة
وقد أجريت دراسة جامعية في لبنان، تحسب مدى احتمال الإصابة بمرض السرطان في منطقة ذوق مصبح تحديداً، بناء على كافة الملوثات المسرطنة في هواء في منطقة الذوق، إن كان لناحية محطة توليد الكهرباء، أو الأوتوستراد والسيارات أو المعامل الصناعية أو مولدات الكهرباء الخاصة المنتشرة في المنطقة.
وبحسب رئيس قسم الكيمياء في كلية العلوم لجامعة القديس يوسف (USJ)، الدكتور شربل عفيف، تبين أن احتمالية الإصابة بالسرطان في منطقة الذوق ترتفع نسبتها إلى 170 في المليون، "وهذه نسبة كبيرة جداً بحسب المقياس المعتمد، حيث لا يجب أن يكون الخطر أعلى من 1 على مليون وفق المعايير العلمية العالمية، وهذا واقع يستدعي التحرك السريع لتصحيحه."
ويضيف عفيف "كمية التلوث في الذوق كبيرة جداً، وكان الأمر واضحاً من خلال فحص تلوث الهواء عبر الأقمار الاصطناعية، حيث ظهرنا كنقطة حمراء لافتة، وبحسب العينات التي أخذناها فإننا نتخطى المعايير الموصى بها لمنظمة الصحة العالمية بأكثر من ٦ مرات، لناحية نسبة الجزيئيات الدقيقة في الهواء، وهذا يعطينا فكرة عن حجم التلوث الموجود أصلاً."
وعن الدخان الأسود المتصاعد مؤخراً، يلفت عفيف، الذي كان من سكان منطقة الذوق، إلى كونها ليست المرة الأولى التي يتصاعد فيها هذا الدخان الأسود، عند تشغيل المعمل الحراري القديم، وهي مشكلة تتعلق بالمعمل نفسه وتعود إلى ما قبل الأزمة الاقتصادية في لبنان، حيث كان يتصاعد هذا الدخان كل يومين تقريباً، ويستمر بالانبعاث لمدة دقيقة أو دقيقتين، "لكن المدة طالت هذه المرة، وهو ما سمح لنسبة أكبر من الناس برؤيته.
ويشرح عفيف أن هذا الدخان لا شك بكونه يحتوي على أكاسيد النيتروجين وأكاسيد الكبريت، ويتصاعد عند حدوث حريق غير مكتمل، ولهذا السبب ينبعث عند بداية التشغيل، كما أنه يحتوي على جزيئيات دقيقة بالغة الصغر، بقطر 2.5 ميكروميتر وأقل، تدخل إلى الرئتين وتسبب ضررا بالغاً بالشعب الهوائية."
وليس ذلك فحسب، فالدخان يحتوي أيضاً على "الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات" Polycyclic aromatic hydrocarbons، التي لها تأثير مسرطن هي الأخرى على صحة الإنسان، وهو ما يؤكد عفيف أنه خرج مع الدخان الأسود، بسبب طريقة احتراقه غير المكتمل.
ويلفت رئيس قسم الكيمياء في جامعة القديس يوسف إلى دراستين تظهران أن هذه الهيدروكربونات متعددة الحلقات، تخرج أيضاً من المعمل نفسه وهي منتشرة فيه، "والمشكلة ليست في ان هذه المواد تصاعدت الآن فقط، المشكلة أنها تتصاعد كلما تم تشغيل المعمل، وتزداد كمية هذه الانبعاثات حين تكون نوعية الفيول رديئة كما هو الحال الآن."
"البيئة" تعترض والطاقة "لا تلتزم"
كلام عفيف جاء مطابقاً لتحذيرات وزير البيئة اللبناني ناصر ياسين، الذي أكد في حديث لموقع "الحرة" أن تطمينات وزير الطاقة لم تقف على رأي وزارة البيئةن ولم تطرح عليها، مشيراً إلى خطورة الانبعاثات الصادرة عن معمل الذوق وضررها الكبير على صحة الناس، لاسيما مع هذا النوع من الوقود، المستعمل مؤخراً، ذي الكفاءة المتدنية، حيث يحرق الكثير لإنتاج القليل".
وبحسب ياسين "وزارة البيئة تتابع هذا الملف، وستواصل مراسلة وزارة الطاقة والمعنيين، من أجل التصدي لأي خلل يمس بالبيئة وصحة الناس."
ويشير إلى أنه ارسل كتابا إلى وزارة الطاقة "بشأن الالتزام بالقيم الحدّية للانبعاثات، emission limited values، التي كانت قد حددتها وزارة البيئة، والمتعلقة بنسب بالملوثات الهوائية الناتجة عن المصادر الثابتة مثل الصناعات ومعامل إنتاج الطاقة، طالباً الالتزام بها، والشروع بتطوير المعامل لتخفيف الانبعاثات."
وزير البيئة لفت إلى أنه "لا يجوز نقل المشكلة من مكان إلى آخر، إذ لا يمكن مقايضة ساعات قليلة من الكهرباء بضرر صحي وبيئي على الناس"، موضحاً أن تكلفة الفاتورة الصحية الناجمة عن تلوث الهواء تقدر بنحو مليار دولار.
وفي المقابل أعلنت وزارة الطاقة والمياه و"مؤسسة كهرباء لبنان"، عدم قدرتها على الالتزام بعدم انبعاث الدخان الأسود من معمل الذوق الحراري، مشيرةً إلى أنها ستوقف المجموعة الإنتاجية حتى موافقة رئاسة مجلس الوزراء على تشغيلها مجدداً.
وأسفت الوزارة، في بيان، لـ "أي ضرر بيئي سبّبه الدخان الأسود، والأذى لأهلنا القاطنين في المناطق المجاورة للمعمل، لأنه ناتج من إعادة تشغيل المعمل عندما يخضع للانقطاع الكلي، نتيجة عدم ثبات الشبكة المرتبط بشح مادة الفيول بالنسبة لسعة الشبكة"، موضحةً أن "هذا الانبعاث للدخان، يدوم لفترات وجيزة، بانتظار أن يتمّ إجراء ما يلزم على نظام التحكم والمراقبة من قبل المناوبين".
ووفق البيان، فإن مؤسسة كهرباء لبنان "ستتريث في معاودة وضع المجموعة الإنتاجية في الخدمة مجدداً، وذلك إلى حين يتم إيداعها الموافقة الخطية من قبل مقام رئاسة مجلس الوزراء، بناءً على طلب المدعي العام البيئي في جبل لبنان، ليصار إلى إعادة تشغيلها، مع الإشارة إلى أن إدارة معمل الذوق غير قادرة على الإطلاق الالتزام بعدم صدور انبعاثات الدخان الأسود، بل ستعمد إلى توقيف المجموعة عند حصول هذا الأمر."
ولفت البيان إلى أن "استعمال مادة الفيول أويل Grade B في معملي الذوق والجية الحراريين حالة استثنائية جاءت منعاً للوقوع في المحظور خلال شهر أيلول، أي العتمة الشاملة."
كما أشار إلى أن "هذا القرار اتخذ بناء على توجيهات رئيس مجلس الوزراء، بالتوافق مع مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان، والهدف منه إمداد المرافق العامة الرئيسية كالمرفأ والمطار ومؤسسات المياه وغيرها بالكهرباء، كقرار استثنائي، إلى حين وصول شحنة الغاز أويل من العراق بعد مبادلتها، والذي تأخر بفعل الأحداث الأمنية الأخيرة في العراق".
وأدى تأخر وصول الفيول العراقي إلى لبنان، لأسباب فنية تتعلق بنوعية الفيول، وسياسية مرتبطة بالأوضاع المستجدة في العراق، إلى خسارة لبنان آخر ساعتي تغذية كهربائية كانت تنتجها شركة كهرباء لبنان، ليقتصر إنتاج الكهرباء في البلاد على المعامل المائية، إضافة إلى ما تبقى في لبنان من مخزون للفيول من فئة "غريد ب"، الذي استخدم لتشغيل معامل الإنتاج القديمة.
بين الأعلى عالمياً
وكانت منظمة "غرين بيس" قد أصدرت تقريراً عام 2020، بشأن الكلفة الاقتصادية التي تتكبدّها دول العالم من تلوّث الهواء، بحيث وصلت الكلفة السنوية في لبنان إلى 1.4 مليار دولار أميركي، أيّ 2% من الناتج المحلي الاجمالي (gdp) ليتبيَّن أنه من بين الأعلى في المنطقة، إلى جانب مصر.
وقدّر التقرير عدد الوفيات المبكرة سنويًا في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بحوالي 65,000 حالة، من جرّاء تلوّث الهواء الناجم عن الوقود الأحفوري. وقد بلغ متوسط العدد التقديري للوفيات المبكرة في لبنان نتيجة تلوّث الهواء بسبب الوقود الأحفوري 2,700 حالة في العام 2018، أي بمعدّل 4 وفيات لكل من 10,000 شخص، وتعتبر بذلك أيضاً من أعلى المعدلات في المنطقة إلى جانب مصر.
كذلك أظهرت نتائج تحليل أجرته منظمة "غرين بيس" عام 2018 لبيانات صادرة عن الأقمار الصناعية، أن مدينة جونية (التي يقع معمل الذوق عند مدخلها) بين المدن الأكثر تلوثًا في العالم، حيث احتلت حينها المرتبة الخامسة عربياً، الـ23 عالمياً، من حيث نسبة الغاز الملوث ثاني أكسيد النيتروجين في الهواء NO2، لتسبق بذلك مدن كبرى مثل القاهرة ونيودلهي".
"ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى تراكم مصادر التلوث في منطقة جونية ومحيطها"، وفق ما يؤكد مدير برنامج الحملات في "غرين بيس" الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جوليان جريصاتي، "وفي مقدمتها معمل الذوق الحراري إلى جانب المولدات الكهربائية الخاصة المنتشرة بين البيوت، والأوتوستراد الدولي الذي يمر فيها ويشهد ازدحاماً مستمراً."
ويلفت إلى أنه "ليس هناك دخان يتصاعد من معمل حراري، مهما كان لونه، أبيض أو أسود أو حتى شفاف، إلا وله تأثير سلبي على صحة الناس وسلامة المواطنين، فحين يتم حرق الوقود الأحفوري، وخاصة الوقود الثقيل الذي يستخدمونه، والذي يمثل مادة سامة ومسرطنة ستكون انبعاثاتها أيضاً سامة ومسرطنة، وبالتالي تصريح الوزير غير دقيق ابداً، ومخالف لكل المعايير العلمية."
ويحذر جريصاتي من أنه "لم يعد ممكناً التعامل مع كل هذه الموضوعات بطريقة اضطرارية وقصيرة الأمد مقابل إهمال المدى البعيد، نطالب بالانتقال تدريجياً إلى الطاقة المتجددة، ولكن تدريجياً وسريعاً في الوقت نفسه، وأول ما يجب فعله هو إغلاق معمل الذوق، فهو معمل قديم غير مطابق لأي مواصفات، فضلاً عن موقعه في منطقة سكنية مكتظة."
من ناحيته، يصف البروفيسور في جامعة جورجيا في الولايات المتحدة والجامعة الأميركية في بيروت، عصمت قاسم، واقع التلوث في لبنان بأنه "عملية قتل للمواطن" حيث لا تقتصر مصادر التلوث على معامل إنتاج الكهرباء، بل أيضاً هناك حرق النفايات العشوائي، والمولدات الكهربائية المنتشرة بين المنازل، والمصانع والسيارات غير المطابقة."
ويضيف: "صحيح أننا ومصر نسجل أعلى المعدلات، لكن لا يمكن المقارنة بيننا وبين مصر لا لناحية المساحة ولا عدد السكان ولا حتى بحجم الصناعات الموجودة، فما الذي يبرر في لبنان هذا التلوث؟ بلدنا صغير لا فيه صناعة ولا إنتاج، ولا أي سبب مقنع لكل هذا التلوث، في المقابل وعن عمد أو سهوا، لا يقومون بربط الأمور ببعضها البعض، نقول مثلاً إن هناك ارتفاعاً كبيراً بتسجيل حالات السرطان في لبنان، وهو أمر لا أحد يختلف عليه ، ولكن لا أحد يسأل لماذا، لماذا يسجل لبنان نسب عالية من سرطان الرئة تحديداً؟ هناك أثر كبير لنوعية الهواء لا يريدون الالتفات إليه.
هذه مشكلة مزمنة في لبنان، بحسب قاسم، و"نتائجها الكارثية ظهرت قبل الأزمة الاقتصادية، أي قبل أن تعمل المولدات الكهربائية الخاصة بهذا القدر، وقبل أن تتدهور نوعية الفيول المستخدم ويتم اللجوء إلى الفيول الرديء، فكيف اليوم؟"
"فليعذرنا الوزير"
ويصف قاسم معمل الذوق مجازياً بأنه "من العصر الحجري، ولو كان له حظوظ لما جرى إيقافه"، ويضيف "حتى ولو كان معملاً مطابقاً لكل المواصفات العالمية، يبقى ملوثاً ويصدر انبعاثات بأنواع معينة، ولهذا السبب يشيدون المعامل والمصانع في أماكن بعيدة عن السكن عادة في دول العالم، فكيف في حالة معمل الذوق القديم الذي يحرقون فيه فيول غير مطابق؟"
ويلفت الأستاذ المتابع لقضايا التلوث في لبنان إلى أن المعامل الحرارية، تنتج في انبعاثاتها أكاسيد الكبريت واكاسيد النيتروجين وأكاسيد الكربون، بالإضافة إلى الجزيئيات الدقيقة ومادة الزئبق شديدة السمية، كل تلك الانبعاثات تحمل أثراً كارثياً على الصحة."
ويتابع "هذا المعمل كان يجب أن يغلق منذ زمن وأن يُزال عن الخريطة نهائياً، فحتى العاملين في المعمل الآن، عرضة للتلوث، حتى لو لم يكن يعمل، وذلك بسبب تراكمات زمنية للملوثات المنبعثة منه."
"لذا لا.. فليعذرنا وزير الطاقة"، يضيف قاسم، "علميا ما يقوله غير صحيح، وما علاقة وزير الطاقة، ليتحدث عن الأثر الصحي أو البيئي؟ هذا من اختصاص وزارتي الصحة والبيئة، هما المعنيتان والمخولتان بدراسة الآثار الصحية والبيئية، أين الدراسات التي أجراها وزير الطاقة؟ أين العينات التي أخذت من الانبعاثات؟ من هي الجهة التي قامت بتحليل ودراسة هذه العينات؟ هكذا تقدم النتائج العلمية الحقيقية التي تعنى بصحة الناس، أضعف الإيمان أن يقدم تقريراً بهذه التحاليل، لنعرف على أي أساس جاءت تصريحاته التي لا يقبلها العقل؟"
الوزير يتراجع
موقع "الحرة" حمل تلك المعطيات العلمية، إضافة إلى علامات الاستفهام التي طرحها الخبراء والمختصون، إلى وزير الطاقة اللبناني وليد فياض، من أجل مواجهته بها، والوقوف على المعطيات التي دفعته لتطمين الناس بأن الانبعاثات "غير مؤذية صحياً."
فياض تدرج في رده وردة فعله على المعطيات التي قدمناها له، حيث انطلق متمسكاً برأيه أن الدخان الأسود غير مؤذ صحياً، معتبراً أن "معمل الكهرباء هذا عمره ٥٠ عاماً، ولا يزال نفسه لم يتغير، والفيول المستخدم فيه أيضاً لم يتغير، وهومن فئة "غريد ب".
الوزير عاد واستدرك أن "كل الانبعاثات مضرة، وليس فقط الدخان الأسود الذي رأيناه، اللون لا يؤثر، والدخان غير المرئي قد يكون أكثر إيذاء من الدخان الأسود، فالـ "السوكس" و"النوكس" (أكسيد الكبريت وأكسيد النيتروجين) مؤذيين أكثر رغم أن لونهما شفاف." فيما يغيب عن بال الوزير أن الدخان الأسود نفسه، يحمل أيضاً الانبعاثات الشفافة التي يتحدث عنها، وفق ما أكد الخبراء.
ويلقي فياض المسؤوليات، تارة على الشركة المشغلة للمعمل، التي رفضت استخدام الفيول المتوفر من الفئة B، وتارة أخرى على شركة كهرباء لبنان التي يقول أنه أبلغته أن الدخان المتصاعد غير مؤذي صحياً، ومع ذلك يشرح فرضيته التي كانت خلف تصريحاته، والتي تقول: "طالما أن هذا الدخان المتصاعد محصور بالوقت، وليس دائم، فإن تأثيره الصحي والبيئي على الأرجح ألا يكون كبيراً، فالتأثير يكبر كلما زادت الفترة الزمنية للتشغيل، إضافة إلى أن لون الدخان المتصاعد لا يغير أبدا في تركيبة الانبعاثات الصادرة عن حرق الفيول."
في المقابل، كان الدكتور شربل عفيف، قد رد على هذه الفرضية مسبقاً، مؤكداً أن آثار التلوث الناتج عن الغيمة السوداء لا تزول بزوالها عن النظر، شارحاً أن "هناك ما يسمى بالتشتت يحصل لهذا الدخان، فيضيع في الهواء، ولكن الانبعاثات لا تختفي، بل تنتشر في الطبقات الجوية، وهذا لا يعني أنها لم تعد سامة ومؤثرة ولكنها باتت بتراكيز أخف، لكنها تنتشر وتتساقط على مساحات أوسع، ولو خفت الخطورة عما هي عليه في المحيط الأقرب ذات التراكيز العالية، ولكن تعرض الانسان لهذه الانبعاثات على المدى الطويل، وبوتيرة مستمرة، يؤدي إلى مشكلات كبيرة."
من ناحيته أيضاً يؤكد عصمت قاسم أن هذه الملوثات المنبعثة "تدخل في تركيبة الهواء والمياه والتربة وتدخل في السلسلة الغذائية للناس، ولا يمكن التخلص منها في محيطنا بسهولة، هذا واقع يتجاهله المعنيون، فأثر الحرق من هذا النوع يبقى طويلاً."
آراء الخبراء أثارت حفيظة وزير الطاقة لدى مواجهته بها، حيث شكك بموضوعيتهم ومدى اطلاعهم، وسأل "أي خبراء؟ هل من أحد متعلم في لبنان كله بقدري أنا؟ لا أحد، ما يقولونه هو لتضييع الشعب اللبناني"، معتبراً أن الواقعة كلها، التي امتدت لفترة وجيزة، لا تستحق كل هذه الإضاءة عليها.
ويضيف "هؤلاء يشغلون الناس بمشكلة ذات تأثير موضعي جداً، كل هؤلاء الذين يحذرون لديهم أهداف سياسية وليسوا موضوعيين."
ويعتبر فياض أن شركة Mep المشغلة لمعمل في الذوق، هي من يتحمل المسؤولية عما جرى، "وهم من يجب أن تتحدثوا إليهم وتحققوا معهم، فهم المغرضون، الذين يرفضون وضع الفيول من فئة B في المعامل الجديدة لأسباب فنية وتجارية ولعدم وجود موظفين لتشغيل المعمل الجديد."
ويكشف أنه كان أمام خيارين "إما تشغيل محطة الذوق القديمة لفترة محدودة من الزمن، مع احتمال تصاعد الدخان الأسود، ومعالجة الأمر إذا ما تصاعد، لإنتاج 100 أو 140 ميغاوات كهرباء لفترة محدودة، إلى حين وصول الفيول العراقي لتشغيل محطات دير عمار والزهراني، فيما الخيار الثاني هو العتمة الشاملة التي ستخلق مشكلات أخرى."
ويتابع: "في نهاية الأمر إذا ما بقي كل من وزير الصحة والبيئة على رأيهم ودرسوا الموضوع كما درسته أنا ووجدوا أن الأفضل أن نوقف التشغيل في المعمل، ونطفئ المرافق الحيوية في البلاد، من مرفأ ومطار وغيره، فليأخذوا القرار وليتحملوا النتائج والتداعيات."
ويضيف أنا في الأصل ضد المحطة كلها، وهذا واضح في خطة الكهرباء التي أعددتها، هذه المحطة يجب أن تلغى، ولكن ليس بإمكاننا تحمل كلفة إلغائها، فالمشاكل التي قد تنتج عن انقطاع مياه الشفة عن الناس، أو زيادة التلوث بالمياه المبتذلة نتيجة توقف عمل محطات التكرير والضخ بسبب انقطاع الكهرباء، يمكن أن يكون مؤذ أكثر من الدخان".
ولدى سؤال الوزير عما إذا كان قد أجرى أي فحوص أو تحاليل على الانبعاثات تدعم تصريحاته، يقول: "لا حاجة لذلك فنحن نعلم مصدرها وما الذي ندخله إلى المحطة، فكيف لا نعلم ما يخرج منها؟ هل هو سحر؟ معطياتي محدودة بالمعلومات التي أملكها، والتي تقول ان الفيول هو نفسه المستخدم، لا أفهم لماذا سيختلف الأمر الآن؟ هذا الدخان لا يؤذي أكثر من الدخان الذي كان يتصاعد في الماضي من هذه المحطة، فلماذا تتصاعد الضجة الآن؟"
تراجع الوزير أولى خطواته إلى الوراء، وبعد أن كان متمسكاً بأن الدخان "غير مؤذٍ صحياً" بات غير مؤذ "أكثر من الدخان الذي كان يتصاعد في الماضي من المحطة". ورداً على إمكانية احتواء الدخان الأسود لمادة no2 السامة، يتراجع الوزير عن علمه التام بكل يخرج عن المحطة ليجيب "لا أعلم إلى هذا الحد، لم أصل إلى تحليل الغاز الصادر، ولكن إذا كان عيار هذه المواد بسيط، تكون الأمور بسيطة ولا تحتاج كل هذا القلق."
"ترقيع بترقيع"
هذه المعطيات دفعت لسؤال الوزير عن سبب عدم مصارحته للرأي العام بالمأزق الذي تقع فيه البلاد؟ حيث كان بالإمكان التوضيح للرأي العام أن الخيار المتخذ بتشغيل معمل الذوق خيار طارئ لا بديل عنه رغم آثاره السلبية، بدلاً من إطلاق تطمينات تخالف العلم والمنطق.
يرد فياض: "حسناً أوضحوها أنتم الآن في تحقيقكم، هذا الدخان مؤذٍ، ولكنه ليس مؤذٍ أكثر من العادة، ففي النهاية أنا مسؤول ومن موقعي لا يمكنني المزايدة والدخول في الشعبوية، بالتأكيد هذه المحطة تسبب انبعاثات مضرة، ولكن هل نستطيع إطفاءها الآن فيما نستخدمها لسبب طارئ حالياً؟"
ويضيف "انا مع العلم 100 في المئة، وأفهم أنه يجب إلغاء المحطة في الذوق ويجب وضع المحطة في مكان جديد وبعيد عن الناس، وحتى الناس التي تعمل في المعمل معرضة للخطر، أنا لست بحالة نكران لتصريحي، ولا في وارد إعطاء صورة وردية عن الموضوع، ولكننا في وضع طارئ وليس أمامنا خيار آخر حالياً."
مع العلم أن هذا ليس حلا مستداماً، فبحسب فياض "الحل المستدام هو بتنفيذ خطة الكهرباء المقبولة من الناحية البيئية، وهي خطة مستدامة تؤمن كهرباء بنصف سعر التكلفة عن مولدات الكهرباء الخاصة حالياً، وتؤمن نحو 10 ساعات تغذية كهربائية، وفي المرحلة اللاحقة بإمكاننا ادخال مصادر إنتاج تقوم على الطاقة المتجددة، أما غير ذلك فهو ترقيع بترقيع وليس حلولاً، وطالما أن الأمور تسير بالترقيع، علينا أن نسيّر الأمور، ولو كان على حساب هذه المشكلة "الموضعية".
في المقابل، يحذر جريصاتي من اعتبار أن التلوث الحاصل حالياً "لا يقدم ولا يؤخر، فوجود هذه القناعة لدى وزير مسؤول أمر مخيف أيضاً، فكلنا نعلم أن هذه الملوثات لن تختفي واقعياً بل ستبقى معنا."
ويخلص إلى أن التلوث الحالي لا يزال مرئياً "ولكن الأخطر في هذه المعامل أن أكثرية التلوث لا نراه، ليصبح بمثابة قاتل صامت."
من جهته يختم عفيف أنه إذا ما كانت ساعة الكهرباء المؤمنة ثمنها هائل بهذا الشكل على الناس، "بلاها، فالثمن يعني أطفال بمرض الربو وأمراض تنفسية وسرطانات منتشرة بين المواطنين".