قمة الأمان أن يشعر الإنسان بأن ثمة سقفاً يؤويه، يحتضنه ويُبْعِد عنه الشعورَ بـ «العراء»، لكن ماذا لو تَزَعْزَعَ السقفُ وتآكل وأصبح آيلاً للسقوط فوق رؤوس قاطنيه مُعرِّضاً حياتهم لخطر الموت، وماذا لو أصبحت الجدران الباعثة على الطمأنينة حجارة آيلة للانهيار ودفْن مَن تحتها؟...
معادلة سوريالية قاتمة تكاد تصبح واقعاً يومياً يَتَهَدَّدُ المباني القديمة وسكانها في أحياء المدن الكبرى في لبنان وفي أحزمة البؤس التي تحوطها...
موت الطفلة جومانا ابنة السنوات الخمس تحت أنقاض بيتها المنهار في منطقة ضهر المغر في طرابلس أخيراً، عاود فتْح جرح المنازل المتصدعة المُهدَّدة بالتحوّل «مقابر جماعية» في أي لحظة.
هل هو سوءُ طالعٍ أم سوء اهتمام ما يجعل البيوت تنهار على ساكنيها؟ أم هو لعنة هذه البلاد المتصدِّعة التي قُدِّرَ لها أن تطمر أبناءها ألف مرة تحت ركام الأزمات قبل أن توافيهم المنية بانفجار أو انهيار أو قهراً في طابور أو على باب مستشفى.
أسباب انهيار المباني القديمة والتراثية في بيروت وطرابلس وبعض الضواحي قضية متشعبة تتخطّى الأسباب الهندسية والطبيعية لتلامس عمق «المعضلة» اللبنانية حيث الانهيار يطاول كل شيء.
الفساد، الفقر، الفوضى، سلّم القِيَم، الإهمال، التسيب، غياب القوانين واللامبالاة... كلها تتكافل مع الأزمة الاقتصادية الحادة وعدم القدرة على الصيانة لتجعل من البيوت القديمة قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر عند أول هزة طبيعية أو اهتزاز أمني وأحياناً عند تَزاوُج الفقر مع سوء الحظ.
بيروت تحتضن... قنابل موقوتة
إثر انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020 قامت نقابة المهندسين في بيروت بإجراء مسح شامل للمباني المتضررة وحجم الأخطار التي تشكلها على السلامة العامة.
وبعد دراسة علمية دقيقة أجريت آنذاك تَبَيَّنَ أنه من ضمن 1575 مبنى تمت دراسة أوضاعها في محيط المرفأ، يتوجب إخلاء 113 مبنى، و52 مبنى ينبغي عزْله، فيما يحتاج 235 مبنى إلى تدعيمٍ إنشائي.
هذا الواقع الذي نشأ إثر انفجار المرفأ كانت سبقتْه تحذيراتٌ من وجود عدد كبير من المباني الضعيفة الآيلة إلى السقوط. وشكّلت كارثةُ سقوط مبنى فسوح في منطقة الأشرفية الذي ذهب ضحيته 26 شخصاً عام 2012 جرس إنذار مدوّياً هَزَّ ضمائر المسؤولين لفترة ليعودوا ويتجاهلوا «هديرَه» فيما بعد وكأن شيئاً لم يكن.
رئيس جمعية سلامة المباني المهندس يوسف عزام كان كشف أنه بعد حادثة فسوح، تم إجراء دراسات تحليلية اعتمدت على خرائط جوية.
وبناءً على عمر المبنى واستناداً إلى خبرة فريق من المهندسين ومدى معرفتهم بالواقع الإنشائي في لبنان، صدرت نتيجة هذه الدراسات في العام 2015 وبينت أنّ هناك نحو 16.260 مبنى مهدداً بالانهيار موزّعة بين الأراضي اللبنانية كافة، وكان العدد الأكبر في العاصمة بيروت.
هذا العدد المخيف من المباني المُهدَّدة شكل ما يشبه «الزوبعة في فنجان»، إذ وبهبة من البنك الدولي في 2012 بلغت قيمتها مليون دولار تم وضع مخطط توجيهي لجعل مدينة بيروت مُقاوِمة للزلازل والكوارث الطبيعية وسُلّم هذا المخطط إلى المحافظ والمجلس البلدي، لكن لم يتم القيام بما هو مطلوب لمعالجة وضع هذه المباني لا من البلدية ولا المحافظ ولا من وزارة الداخلية أو مديرية الآثار.
فالوضع مُعقّد قانونياً ومالياً، إذ إن غالبية المباني المُعرَّضة للسقوط هي مبانٍ قديمة تخضع لقانون الإيجارات القديمة بحيث إن لا المالك مستعدّ لترميمها وهو لا ينال إلا مبلغاً ضئيلاً جداً كبدل إيجارات، ولا المستأجرون مستعدّون للترميم كونهم لا يملكون المبنى ولا يعرفون متى يتم طردهم منه.
وقد تفاقمت هذه المشكلة في شكلٍ كبير اليوم مع ارتفاع الأسعار بحيث إن البلديات لم تعد قادرة على القيام بعمليات الترميم التي تكلّف مبالغ طائلة غالبيتها بالدولار وغير متوافرة لدى البلديات، ولا أصحاب الملك قادرون على ذلك.
نقيب المهندسين في طرابلس لـ «الراي»: 400 مبنى في عاصمة الشمال مُهدّد بالسقوط
«الراي» تواصلت مع نقيب المهندسين في طرابلس والشمال بهاء حرب لتطّلع منه على تعقيدات قضية سقوط المباني وخصوصاً أن في طرابلس وحدها 400 مبنى قديم جداً ومُهدَّد بالانهيار ويشكل خطراً على السلامة العامة.
وأكد النقيب «أن مسؤولية ترميم البيوت هي في الواقع مسؤولية البلدية، لكن بلدية طرابلس أرسلت عدة كتب إلى وزارتيْ الداخلية والأشغال العامة ومديرية الآثار لإعلامها بخطر هذه المباني على السلامة العامة من دون أن تلقى جواباً أو تجاوباً من أيٍّ من هذه المرجعيات»، كاشفاً أنه «ومن جهة أخرى، رَفَضَ سكان المباني المُعَرَّضة للسقوط إخلاءها تنفيذاً لقرارات البلدية، لأن لا بديل تم تأمينه لهم ولا سقف غيرها يؤويهم».
ويضيف حرب أن «النقابة قدّمتْ كل المعونة المطلوبة للقيام بدراسة لتدعيم المباني. وكان مبلغ 30 مليون دولار قد رُصد سابقاً لتصحيح أوضاع المباني الخطرة، لكن عملية الترميم لم تُنفذ. واليوم لم يعد لهذا المبلغ قيمة تُذكر مع التضخم المالي وانهيار سعر الليرة».
نقيب مهندسي الشمال، الذي عاين المبنى المُنْهار وجواره، وَجَدَ الوضعَ مخيفاً. فالمبنى وفق قوله «لا تظهر فيه أعمدة واضحة أو أسقف متينة ولا يُعرف على أيّ أساساتٍ بني، وهو شبيه بمبانٍ قديمة كثيرة تم بناؤها منذ بدايات القرن العشرين من دون أي مراعاةٍ لقواعد البناء الحديثة، وكثيرها اليوم يحمل تشققات متعرّجة يفوق عرْضها سنتيمترين وأعمدتها متآكلة ومهترئة كما أنها تحمل التواء خطراً. وكل هذه مؤشرات على وضعها السيئ».
ليست هذه المباني الشعبية الفقيرة مباني أثرية حتى يتم الاهتمام بها ومراقبة وضعها، بل هي مساكن شعبية قديمة متراكبة ومتداخلة لا تقوم الجهات المختصة ومن بينها البلدية بتقديم الخدمات المطلوبة في أحيائها وكأن القصد تركها تعاني من ظلم الزمن والطبيعة والمسؤولين.
وإضافة إلى عوامل البناء والقِدم وغياب الخدمات، يأتي الفقر ليزيد من خطر الانهيار. فكل شقة تسكنها أكثر من عائلة في ظل انعدام الصيانة حيث القساطل متآكلة والنش والرطوبة يعششان في المكان وتصريف المياه الآسنة غير متوافر في شكل صحيح ما يحوّل المنازل إلى بؤر من البؤس والأخطار.
ويؤكد النقيب أنه حالياً «يتم بناء البيوت لتحتمل 200 كيلوغرام في المتر المربّع في حين تشهد هذه البيوت القديمة المتعبة كثافة سكانية عالية تشكل ثقلاً على الأرضية وتجعلها أكثر عرضة للانهيار».
إلى عوامل الفقر هذه، يضاف عاملُ تحدي المواطنين للقانون في مختلف المناطق اللبنانية وليس في طرابلس لوحدها بحيث تتم إضافة طبقات غير شرعية إلى المباني دون أن تتم دراسة تأثيرها على بنية المبنى الإنشائية ومدى قدرته على احتمال ثقلها أو تتم إضافة غرف إلى المنازل، مبنية على عَجَلٍ تحت جنح الظلام دون أي مسوغ قانوني أو هندسي ودون تدعيم حقيقي ما يجعلها مصدر خطر على البيت وما يحيط به.
ويروي نقيب مهندسي الشمال لـ «الراي» أنه «في منطقة الشلفة في طرابلس، تمّ بناء 50 مبنى، وكل منها من طبقات عدة، أي ضيعة بأكملها من دون أي ترخيص من البلدية أو النقابة ومن دون تقديم خرائط واضحة ودراسات حول الحديد والخرسانة من قبل الذين بنوا هذا المجمع. وحين طلبت البلدية الدعم لهدم هذه المباني فوجئت بتعليمات للانسحاب وترك الأمور على حالها من بعض المرجعيات».
«مناطق عدة في طرابلس مثل الحدادين، التبانة، القبة وغيرها تعاني من حرمان كبير وغياب أي اهتمام من الدولة. ولو أن المبالغ التي خصصت للترميم صُرفت في وقتها لكنا استطعنا تجنب الكثير من المآسي»، يقول النقيب.
الأمر في بيروت قد يكون أقل خطراً نظراً إلى الاهتمام الذي توليه الوزارات المركزية المختصة للأمر ومتابعتها له ولا سيما في ما يختص بالأبنية التراثية التي تخضع لمراقبة واهتمام.
وهنا يخبرنا أحد العارفين أن بعض المالكين ممن تم تصنيف أملاكهم كمبانٍ أثرية يعمدون إلى إهمالها عن قصد حتى تتهاوى وتسقط ليصبحوا قادرين على بيع أرضها بأغلى الأسعار.
بين مواطن فقير ومواطن لا مبالٍ، وبين دولة لا تضع سلامة مواطنيها ضمن أولوياتها ولا تعتبر تراثها وآثارها كنزاً يجب الحفاظ عليه بماء العيون تغيب المسؤوليات ويبقى المواطن المغلوب على أمره هو الضحية.