طرابلس.. فجوةٌ أمنية سياسية تجْعلها «كبشَ محرقة»
الراي الكويتية
Thursday, April 21, 2022
لم يسبق أن اتشحتْ عروسٌ بثوبٍ أسود، كما اتشحت طرابلس. عاصمة الشمال ومدينتها التي تَحَوَّلَ بحرُها المتوسط مقبرةَ أبنائها.

في تظاهرات 17 أكتوبر 2019 أُطلق عليها لقب «عروس الثورة». وحين انطلقت منها زوارق المُهاجِرين إلى أوروبا وغرقوا في البحر، صارت مراكب الموت مُرادِفة لها، فارتدت الأسود.

المدينةُ التي لا يمكن أن تغمض عينيْها وتعيش تناقضات الحياة اليومية، خليطٌ من أثرياء ورجال أعمال، إلى قيادات تاريخية ونواب ووزراء، شوارع فسيحة وأزقة بسيطة وأحياء مدقعة، وفقرٌ يعشعش في زوايا بيوتاتها. كل ذلك لا ينفكّ يضعها في كل أزمةٍ على مفترق طرق، فيعود اسمها يتردد، وسط ملامح الخوف حول مصيرها.

منذ أسابيع وطرابلس تحت المجهر. التقارير الأمنية تُنْذِر باحتمالات انفجار وضعها الاجتماعي على خلفية التدهور الذي يلحق بطبقاتها الشعبية، في موازاة التحذير من مغبة استخدامها ساحةً تتقاطع فيها كل احتمالاتٍ تفجير الوضع اللبناني انطلاقاً منها.

ففي المدينة، التي كَتبتْ لها الحكوماتُ المتعاقبة برامجَ معيشية وإنمائية على الورق، ووضعتْ لها الأجهزةُ الأمنية خططاً أمنية عدة، يَسْهل تَداخُل عوامل الفقر مع الاتجاهات السياسية المتضاربة، ويسهل أيضاً دخول متفرعات السياسية الاقليمية، من تركيا إلى سورية أو أي نفوذ إقليمي آخَر، ناهيك عن انقساماتٍ سياسية داخل البيئة الطرابلسية.

لكن بقدر ما ان طرابلس مدينة مفعمة بالحياة وتقدّم نموذجاً حياً لمسارٍ تاريخي وشعبي غنيّ، بقدر ما تحوّلت خلال الحرب وما بعدها خزاناً متفجراً، حيث دخل عامل التشدد إلى بعض أوساطها وزكّته عوامل إقليمية، بعدما صارت عاصمة الشمال أحد أحلام بناء إمارة اسلامية سرعان ما لفظتْها المدينة على يد أبنائها.

منذ مدة، وعودةُ بعض الملامح التشدد تشغل بال الأمنيين الذين يحاولون التقليل من هذا الكلام وتطويق مجموعات أو اتجاهات يُفهم منها إيجاد بيئة مؤاتية لتوتّرٍ مستجدّ بدءاً من الشمال. وتزداد المخاوف من تَصاعُد حدّة هذه الاتجاهات على وقع ما يحصل اجتماعياً من تدهور أوضاع الشبان العاطلين عن العمل، وانتشار المخدرات وشلل عمل الجمعيات الانسانية المختصة وعجْزها عن تأمين المساعدات، وأعمال العنف كما حصل في الجريمة التي جرت في منطقة التل أخيراً وأدت إلى مقتل 4 أشخاص، إضافة إلى حال النقمة التي باتت تولّدها زوارق المهاجرين التي تغرق في عرض البحر.

في ابريل الماضي كانت الكارثة الأولى بهذا الحجم التي تطال أبناء طرابلس والشمال حين غرق مركب على متنه أكثر من 60 شخصاً قبالة الساحل. هزّت الفاجعةُ المدينةَ ولبنان، وحاول البعض إلقاء التهمة على الجيش اللبناني الذي كان اعترض الزورق الذي غرق وتعذَّرت محاولةُ انتشال كافة الجثث.

الحادثةُ التي أضاءت على خطورة شبكات التهريب، تحوّلت سجالاً سياسياً وأمنياً. مع ذلك لم تُتخذ منذ ابريل الماضي أي إجراءات رادعة فعلياً لمنع عمليات التهريب. وتتقاذف الجهات الأمنية والقضائية والسياسية مسؤوليةً هذا الانفلاش الكبير في عمل شبكات التهريب، بعدما تعدّدتْ أوجهه وطرق استخدام البنية التحتية من اتصالاتٍ وتحضيرات من دون أي رادع. والأمن الاستباقي عادةً هو الأكثر فاعلية في مثل هذه الأوضاع، فكيف الحال وطرابلس صارت مسرحاً معروفاً لشبكات تهريب تسْرح وتتواصل وتشتري زوارق من سورية وتقبض أموالاً طائلة من الذين يريدون مغادرة لبنان (خمسة آلاف دولار للشخص الواحد).

القوى الأمنية التي تُراقِبُ وضعَ طرابلس تتحدّث عن فجوة أمنية في عمل الأجهزة الامنية التي لا تتحرّك كلها وفق جهوزيةٍ تامة في المدينة ومحيطها حيث تتوزّع شبكات التهريب وتتمدّد. إضافة الى تلكؤء الأجهزة القضائية في مواكبة التوقيفات، في مقابل الإفراج عن مهرّبين بعد أيام قليلة على توقيفهم، ليعودوا إلى مزاولة أعمالهم والتحضير لمراكب موت جديدة من دون أي رقابة وكأن شيئاً لم يكن.

ومن الواضح أن خطةً أمنية بحجم قَمْعٍ مسبق لعمل المهرّبين ومنْع عمليات التهريب تحتاج إلى استنفارٍ عال المستوى، واجتماعات رفيعة، حكومية ووزارية وأمنية معنية، وإلى جهد قياداتِ طرابلس السياسيين على كافة انتماءاتهم، لكن لم يَظْهر بعد أن المسؤولين المعنيين بادروا إلى ذلك رغم خطورة الأحداث الأخيرة.

فمع خبر غرق زورق قبالة طرطوس وانتشال جثث نحو 95 من ضحاياه حتى الآن، استعاد الأمنيون سيناريواتٍ حول خلفية ما يحصل. فعدا عن الخلل الأمني وعدم قدرة الأجهزة الأمنية، بما تملك من إمكاناتٍ ضئيلة على المراقبة الحثيثة للشاطىء - علماً أن دولاً أوروبية أكثر تجهيزاً تقف عاجزة عن ضبْط كل عمليات التهريب - فإن توقيت ما يجري وتغاضي دولٍ أوروبية معنيةٍ باستقبال النازحين، يَترك علامة استفهام حيال فورة الهروب الكبير. كذلك فإن الغموضَ يكتنف تجييش الفلسطينيين من مخيم نهر البارد على الرحيل، عدا عن اللبنانيين، وعدم اتعاظ الهاربين الجائعين واليائسين من حجم المخاطر التي سيواجهونها بعد سلسلة حوادث مشابهة. وخصوصا أن هناك بين الهاربين من الجحيم اللبناني شبان أنْهوا دراساتهم الجامعية، وعائلات بأكملها خاطرتْ بركوب البحر من أجل الوصول إلى أوروبا بأي ثمن.

وإذا كان مشهد طرابلس الدامي يتحول مرة أخرى حَدَثاً إعلامياً، إلا أن القوى السياسية تقف مرة جديدة مستنكرة، كما حصل قبل أشهر قليلة. لكن الاستنكارات تُطوى فيما أمواج البحر المتوسط تأكل اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، في مآسٍ مستمرة حصدت في حادثتين نحو 150 شخصاً والحبل على الجرار، ما دام الفقر هو الغالب في غياب الرقابة الأمنية والفاعلية السياسية.

Copyright © 2022 -  sadalarz  All Rights Reserved.
CSS smooth scrolling effect when clicking on the button Top