في شهر التوعية لمنع الانتحار.. لبنانيون نادمون يروون تجاربهم
أسرار شبارو - الحرة
Thursday, April 21, 2022
"أشكر الله الذي أعطاني فرصة ثانية لأكتشف أن الحياة تخبئ لنا أشياء جميلة رغم كل الصعوبات،" يقول الشاب اللبناني رامي، الذي قرر في لحظة ضعف أن يضع حدا لحياته لكن شقيقه أنقذه من "مخالب الموت" كما يقول، "وها أنا اليوم مدين لشقيقي بروحي".

قبل أربع سنوات، وصل رامي إلى مرحلة اليأس، بعدما فقد وظيفته ووجد نفسه فجأة عاطلا عن العمل. واشتد يأسه بعد سبعة أشهر قضاها من دون مدخول، وتراكمت عليه ديون إيجار منزله وأقساط سيارته، "سُدت كل الطرق في وجهي،" يقول لموقع الـ"الحرة"، "مع هذا لم أكن أفكر بالانتحار إلا حين أدخلت والدتي إلى المستشفى، ولم أكن أملك المال لدفع فاتورتها الاستشفائية، شعرت بالعجز أمام من وهبتني الحياة، وعندها قررت من دون تبصر أو تفكير أنني لا أستحق العيش، فحاولت أن أشنق نفسي".

وفيما تشير أرقام لقوى الأمن الداخلي إلى أن لبنان شهد زيادة في عدد حالات الانتحار بنسبة 7.8% خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي، بينت مقارنة أجرتها "الدولية للمعلومات" تراجع عدد حالات الانتحار "من 172 حالة في العام 2019 إلى 150 حالة في العام 2020، إلى 142 حالة في العام 2021، إلى 83 حالة خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2022".

لكن بالرغم من تراجع عدد حالات الانتحار، تكشف "الدولية للمعلومات" أن هناك ارتفاعا في الرغبة بالانتحار "من خلال الاتصالات التي تتلقاها جمعية "Embrace"، إذ ارتفعت من نحو 5 اتصالات يوميا قبل عامين إلى 25 اتصالا".

لا يزال الانتحار هو أحد الأسباب الرئيسية للوفاة حول العالم، وفي كل عام يفوق عدد الذين يموتون انتحارا عدد الوفيات منهم بسبب فيروس الإيدز أو الملاريا أو سرطان الثدي أو حتى الحرب والقتل، هذا بحسب منظمة الصحة العالمية، أما الأمم المتحدة فتشير إلى أن الانتحار يأتي في المرتبة الرابعة لأسباب الوفاة لدى فئة الشباب بين 15 إلى 29 عاما، بعد حوادث الطرق والسل والعنف.

وأصدرت منظمة الصحة العالمية في يونيو الماضي تقديراتها عن الانتحار حول العالم، مشيرة إلى أنه في عام 2019 لقي أكثر من 700 ألف شخص حتفهم انتحارا، أي ما يعادل وفاة واحدة من كل 100 وفاة. وقد سجل عام 2020، نحو 1.2 مليون محاولة انتحار.

سبتمبر هو شهر التوعية للوقاية من الانتحار، هذه الظاهرة التي لا تلقى الأهمية المطلوبة في لبنان، لاسيما من قبل الدولة، دفعت عدد من الجمعيات إلى أخذ الأمر على عاتقها، لاسيما وأن المجتمع اللبناني لا يزال يتعامل مع الانتحار كـ"تابو"، معتبرا المنتحر ضعيف الإيمان.

ندم وامتنان

دخل رامي (27 سنة) في غيبوبة لمدة ثلاثة أيام، ومع هذا كما يقول "كنت اسمع بكاء والدتي، ومناشدة عائلتي للطبيب لفعل كل ما بوسعه كي لا أفارقهم للأبد، ما جعلني أندم على ما أقدمت عليه، تغيّرت نظرتي للأمور بعد أن استعدت وعيي، حيث بدأت أسخّف كل مشكلة تظهر أمامي، ولم يعد يعنيني شيء حتى وضعي الاقتصادي، وباتت أقصى أمنياتي أن أبقى وأفراد عائلتي بصحة جيدة".

ويعتبر علاء نفسه مدينا بحياته لوالدته التي أنقذته من الموت، عندما حاول رمي نفسه من شرفة المنزل قبل حوالي خمس سنوات، وذلك نتيجة ما عاناه، كما يقول، من ظلم وتمييز بينه وبين أشقائه. ويشرح لموقع "الحرة" "شعرت أن وجودي وعدمه واحد، وبأن الدنيا تضييق من حولي، كنت أختنق في اليوم عشرات المرات، ومع ذلك لم أكن أفصح عما يختلجني، إلى أن وقع يوما خلاف بيني وبين أحد شقائي، فما كان مني إلا أن قررت الانتحار بشكل فوري".

لم يجد علاء أمامه بحسب ما يشير سوى الانتحار كوسيلة للخلاص من كل الضغوطات، ويشدد "كنت أبلغ من العمر حينها 22 سنة، ولو عادت بي الأيام لن أكرر خطوتي المتهورة، فلو فكر الإنسان بعواقب الانتحار سواء عليه أو على عائلته فمن المؤكد حينها إنه لن يقدم عليه، فبالإضافة إلى كونه محرم دينيا، فإن المنتحر يترك خلفه وصمة عار لعائلته ومحبيه".

"الانتحار كتعريف هو قتل النفس عمدا كرد فعل على الضغوطات التي يواجهها الشخص، وهو ينجم عن أفكار وشعور يراود الإنسان وكأنه الطريقة الوحيدة لإنهاء الألم النفسي والخروج من الأزمات، فيهدر حقه في الحياة التي تعتبر أقدس حقوقه،" تقول أخصائية علم النفس هيفاء السيد لموقع "الحرة".

لا توجد إحصاءات دقيقة لعدد الذين أقدموا على الانتحار في لبنان، كما تقول رئيسة جمعية "تخطى" للصحة النفسية سيسيليا ضومط، "لكن الواقع يشير إلى أن العدد إلى ارتفاع، من خلال ما نلمسه في عيادات الأخصائيين النفسيين، والأشخاص المعلن عن إقدامهم على الانتحار، إضافة إلى الوفيات مجهولة السبب، أو بالأصح التي تحاول عائلها والمقربون منها اخفاء انتحارها بسبب الخجل من ذلك".

أسباب عدة تقف خلف عدم تراجع عدد المنتحرين في لبنان، بحسب ما تراه ضومط، على رأسها كما تشير في حديث لموقع "الحرة" "الأزمات المتتالية التي يعيشها اللبنانيون لا سيما الاقتصادية منها والتي أسفرت عن هجرة عدد كبير منهم، وحالة العجز النفسي التي يشعرون بها وخيبات الأمل المتتالية التي يواجهونها، ما يشكل عقبة أمام أي انطلاقة جديدة لهم".

ومن الأسباب كذلك "عدم قدرة اللبنانيين الذين يتناولون أدوية أعصاب على شرائها بسبب ارتفاع أسعارها، من دون أن ننسى ما خلفته أزمة كورونا من قلق وخوف، سواء من إمكانية الإصابة بالفيروس أو فقدان أحد الأحبة، إضافة إلى التباعد الاجتماعي الذي فرضته. كل ذلك قد يؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب".

وردت هيفاء دوافع الانتحار إلى أسباب عدة منها، "اضطرابات نفسية تشمل الاكتئاب والقلق واضطراب ثنائي القطب، إضافة إلى الفصام وتعاطي المخدرات"، كما تلعب العوامل الاجتماعية والاقتصادية دورا، كما تقول، في دفع بعض الأشخاص إلى اتخاذ هذه الخطوة المميتة، "كالعيش في جو تشوبه الخلافات الزوجية، حيث تسيطر المشاجرات والاعتداءات الجسدية واللفظية والجنسية إضافة إلى المشاكل المالية، ما يفقد الإنسان معنى الحياة، وينمّي لديه الشعور بالعزلة واليأس وبأن لا شيء يستحق الاستمرار على هذه الأرض".

"فكرة مسيطرة"

أولى تجارب نادية مع الانتحار كانت في سن الخامسة عشر، وذلك بسبب التعنيف اللفظي والجسدي الذي كانت تتعرض له من قبل أبيها وزوجته، ورغم مرور 23 سنة إلا أن فكرة إنهاء حياتها لا تفارقها، بكلمات يعتصرها الألم، روت لموقع "الحرة" تفاصيل اليوم الذي فضلت فيه الموت على العيش مع عائلتها، "يومها كنت عائدة من المدرسة، حين سألتني زوجة أبي عن سبب تأخري، وعندما لم يعجبها تبريري بدأت بالصراخ عليّ قبل أن يدخلني والدي إلى غرفة النوم وينهال عليّ بالضرب حتى غبت عن الوعي".

عندما استيقظت نادية من غيبوبتها، سارعت إلى حقيبة مدرستها وأخرجت علبة دواء الاكتئاب، تناولت 15 حبة منه. تقول "بدأت أهلوس وأفقد وعيّ، فاصطحبني والدي إلى منزل جدتي وغادر تاركا إياي لمصيري، أتذكر كيف كنت أضرب رأسي بالحائط، وأدور حول نفسي في أرجاء الغرفة، اتحدث بكلمات غير مفهومة، أدخل في غيبوبة قبل أن أصحو مجدداً منها".

اتصال جدة نادية بعمها، ساهم في انتشالها من الموت بعدما سارع بها إلى المستشفى، حينها ندمت على ما أقدمت عليه إذ "جرى تخويفي من أن عقاب الله لكل منتحر هو عذاب في النار، إلا أني في الحقيقة أشعر أني أعيش في النار رغم أني هاجرت بعيدا عن عائلتي ووطني، فما واجهته في طفولتي محفور في ذاكرتي، من هنا أصبح الاكتئاب رفيق دربي، الذي يحاول دفعي في كل مرة إلى وضع حد لحياتي".

أعراض مختلفة تظهر على الشخص المصاب بالاكتئاب، منها، كما تقول ضومط، "الشعور بالحزن الشديد على مدار اليوم لمدة تزيد عن الأسبوعين، إضافة إلى عدم الرغبة بالقيام بالأمور اليومية والأنشطة الحياتية المعتادة، كالاستحمام والذهاب إلى العمل والجامعة وممارسة الرياضة والسهر" لافتة إلى أنه "عندما يبدأ الشخص بالتفكير بالانتحار، يعبّر عن ذلك، وعندما يحاول الاقدام على تنفيذ ما يفكر به يعني أنه اقترب من الخطر بشكل أكبر".

وحذرت ضومط من اتباع مقولة "من يهدد لا ينفذ"، إذ "أن عددا كبيرا من الذين ألمحوا أو هددوا بالانتحار أقدموا على ذلك، من هنا ضرورة أخذ الموضوع على محمل الجد"، لافتة إلا أن منظمة الصحة العالمية تدعو للتحدث مع الشخص الذي تظهر عليه عوارض الاكتئاب، والاستفسار منه، فيما إن كان لديه بالفعل أفكار سوداوية أي أنه يفكّر بالموت، وإذا أكد ذلك يجب سؤاله عن الوسيلة التي يفكر باتباعها وتوقيت قيامه بذلك، ومن ثم إخبار عائلته لمساعدته وحمايته من نفسه".

كذلك تقول هيفاء "يجب أخذ كلام المريض على محمل الجد عند إدلائه برغبته بقتل نفسه أو تمني الموت، مع عدم وضع الأدوية والأدوات الحادة والأسلحة في متناول يده، وتوفير العلاج النفسي وفرصة عمل له إذا كان عاطلا عن العمل، إضافة إلى ضرورة خلق جو إيجابي حوله يمنحه أملاً جديداً بالحياة".

كما أشارت الأخصائية النفسية إلى بعض أعراض الانتحار، منها "اعتراف الشخص برغبته في قتل نفسه أو تمني الموت، وانعزاله عن محيطه، وتقلب مزاجه، إضافة إلى تغيير نمط نومه وطعامه، كما أن تعاطي المخدرات قد يكون أحد هذه الأعراض".

الوقاية خير من العلاج

اليوم تداولت مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان خبر وفاة عسكري في الجيش اللبناني، بعدما أقدم على إطلاق النار على نفسه في مدينة صيدا جنوبي البلاد، لينضم إلى قائمة طويلة من الأشخاص الذين أنهوا حياتهم.

التفكير الانتحاري لا يذهب من تلقاء نفسه، كما تقول هيفاء، ولتعزيز قدرة الشخص على مقاومة الرغبة في الانتحار، دعت "إلى عدم مواجهة المريض الأفكار الانتحارية وحده، إذ بإمكانه التواصل مع شخص يثق به ويفهمه ويستطيع التعبير له عن مشاعره، كما يجب طلب المساعدة من الاخصائيين مما يسهل على المريض التغلب على الأفكار والسلوكيات الانتحارية"، لافتة إلى الخطوط الساخنة التي تضعها بعض الجمعيات التي تعنى بمثل هذه الحالات، "كما يمكن للمريض التوجه إلى أقرب مؤسسة مختصة بالمتابعة النفسية للكشف عليه من قبل طبيب نفسي، ووصف أدوية مناسبة لحالته، للحد من أعراض وسلوكيات الانتحار".

وتشدد على ضرورة متابعة المريض للعلاج بانتظام وعدم إيقاف الدواء دون أمر من الطبيب النفسي، للحؤول دون عودة الأفكار الانتحارية وأعراض الانتحار، إذ كما تقول " أفضل وسيلة للتغلب على الأفكار والسلوك الانتحاري هو التمسك بخطة العلاج والسير عليها بانتظام"، مشيرة كذلك إلى دور المعالج النفسي في كشف السبب الكامن خلف حالته، وفي تعليمه مهارات إدارة العواطف بشكل أكثر فعالية.

من جانبها حذرت ضومط من تناول أي دواء دون استشارة طبيب، مشددة على أن "تدخل المعالج أو الطبيب النفسي يصبح ضرورة، عندما يؤدي التعب النفسي إلى عوارض جسدية، كاضطرابات النوم والشهية وأوجاع المعدة الناتجة عن القلق، وعند المعاناة من قلة الثقة والخوف من المجتمع إلى درجة ظهور حواجز لا يمكن تخطيها".

ولأن درهم وقاية خير من قنطار علاج، تنصح ضومط الشبان والشابات بأن يكونوا إيجابيين، وألا يغرقوا أنفسهم بالحزن، وأن يعلموا أن الفترة السلبية التي يمرون بها ستنتهي، سواء كانوا يعانون من مشاكل صحية، أو مادية، أو عائلية، أو عاطفية وغيرها، مشددة على ضرورة الابتعاد عن العزلة، والإفصاح عما يختلج صدورهم، بمعنى مشاركة همومهم وأوجاعهم مع الآخرين، وممارسة هواياتهم. 

سبق أن أصدرت منظمة الصحة العالمية إرشادات بشأن تنفيذ نهجها في الوقاية من الانتحار بعنوان "عش الحياة"، وأكد مدير عام المنظمة الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس أن هذه الإرشادات ترسم مساراً واضحاً لتعزيز جهود الوقاية من الانتحار، وهي تشتمل على أربع استراتيجيات رئيسية، أولها تقييد الوصول إلى وسائل الانتحار مثل المبيدات شديدة الخطورة والأسلحة النارية، وتثقيف وسائل الإعلام بشأن الصياغة المسؤولة للتقارير عن الانتحار؛ وتعزيز مهارات الحياة الاجتماعية-العاطفية لدى اليافعين؛ والتعرف المبكر على حالات تبدي أفكارا أو سلوكا انتحاريا وتقييمها وإدارتها ومتابعتها.

تشجّع إرشادات "عش الحياة" على تنفيذ إجراءات تشمل تعزيز الصحة النفسية وبرامج مكافحة التنمر والربط بخدمات الدعم ووضع بروتوكولات واضحة للعاملين في المدارس والجامعات عند التعرّف على مخاطر تتعلق بالانتحار، وقالت الدكتورة ألكسندرا فلايشمن، خبيرة الوقاية من الانتحار لدى منظمة الصحة العالمية، إنه "في حين ينبغي التطلع إلى وضع استراتيجية شاملة للوقاية من الانتحار كهدف أسمى لجميع الحكومات، فإن الشروع في جهود الوقاية بتنفيذ التدخلات الواردة في إرشادات "عش الحياة" من شأنه إنقاذ الأرواح ومنع المعاناة المفجعة لأولئك الذين يغيّب الانتحار أحبتهم".

Copyright © 2022 -  sadalarz  All Rights Reserved.
CSS smooth scrolling effect when clicking on the button Top